مُعالجة نظرية التخلف 2
أشرنا أمس إلى نظرية التخلف الموسومة بـ (الحلقة المفرغة) تنبني على حيثيات عديدة، ذكرنا منها أنماط حركة المجتمع في التاريخ وعلاقتها بالتقدُّم والتخلُّف، وتطرَّقنا إلى ما تسميها النظيرة بالحركة الدائرية (المفرغة) التي تعيد إنتاج نفسها دون أن تحدث أي تقدم، وقلنا إن الشعوب السودانية وتحت إدارة حكومات ما بعد الاستقلال ظلت أسيرة نظرية (الحلقة المفرغة) على كافة المستويات، حيث ظلت دؤوبة على معالجة (نتائج ) أزماتها لا جذورها، وبالتالي فهي تعيد إنتاجها في شكل دائري وباستمرار، وتطرقنا إلى النتائج المباشرة ولخصناها في سيادة ثقافة التستُّر التي ترفض الواقائع والحقائق وتعمد إلى إنكارها ولا تعترف بالأخطاء، وأشرنا فيما أشرنا إلى أن السلطة وهوامشها من ينتجون ويروجون لهذه الثقافة بغرض إيهام المجتمع بأن البديل سيكون دائمًا أسوأ ما كرس ثقافة مقاومة التغيير ورفضه خوف إفضائه إلى مستقبل أسوأ.
وعليه حريّ أن نقول بصوت عالٍ إن الحكومات والمعارضات ليست مسؤولة من التخلف وحدها وإن كانت تتحمل النصيب الأكبر منه، فالشعوب الراضخة والمستجيبة دومًا للخطاب السياسي العاطفي (الخطابة)، أو الديني الشكلاني أو العلماني (الشعاراتي)، وهو خطاب تخويفي (هارش) وتخويني إقصائي يتوسل الوطنية والنضال تارة والدين والعادات والتقاليد والثقافة المحلية أخرى، من أجل الوصول إلى السلطة وتجييرها إلى مصالح مادية شخصية دون المصالح العليا للشعوب، ولأن (الحكومات) بالتواطؤ مع المثقفين التابعين لها (مراكز الدرسات والبحوث والأكاديميا والإعلام) تنتج الخوف من التغيير إلى الأفضل، فإنها تتبنى نظرية ماسخة، قديمة تفسر على أساسها أوضاع التخلف وإعاقة التنمية، فقط إلى الهيمنة الرأسمالية العالمية خلال توظيف خيرات وثروات المستعمرات القديمة لمصلحة المركز الرأسمالي، وتطرح هذه النظرية نقدًا واسعًا حول الأفكار التي بإمكانها إحداث لتغيير الواقع المزري في البلدان المتخلفة وتقاوم بكل ما أوتيت من قوة وسلطان نظرية التحديث وتعدها جزءا من وصفة استمرار وتجسيد نظرية التبعية.
بطبيعة الحال، لا يمكن إدارة الظهر عن نظرية أخرى مهمة، نظرية أحدثت تغييرًا كبيرًا على مستويي التنمية الاقتصادية والبشرية في بلدان عديدة كالصين واليابان ودول جنوب شرق آسيا، وهي النظرية الثقافية (النفسية) التي تقول إن التنمية في البدء ترتبط بعوامل نفسية وثقافية لدى الأفراد والمجتمعات وإن العوامل الاقتصادية هي نتيجة وليست سبب، وثمرة لا جذور، وبالتالي فهي تركز على مفاهيم أساسية مثل الإرادة, والانجاز, الثقة، وبناء ثقافة النجاح، وإذا أردنا أن (ننمو) ببلادنا لابد من أن يكون لدينا استعداد نفسي (ثقافي) يتمثل في الإرادة الجمعية أي رغبة المجتمعات والنظم السياسية واستعدادها للتغيير والتقدم وتجاوز الأمر الواقع، تأتي من بعد ذلك عوامل أخرى كبناء الثقة بالنفس، يعقبها الإنجاز عبر صياغة ثقافة محفزة عليه، تعنى بقيم كالوقت والانضباط والتفاني.
لكن كل ذلك لن يجدي فتيلا إذا ما دأبت المجتمعات بإيعاز من السياسيين على إنكار ذواتها الثقافية والإثنية والتنصل منها والالتحاق العبثي المذل (عبر تزوير التأريخ والقيم) إلى فضاءات ثقافية أخرى، ما يخلف حالة انفصام وجداني خطير يترتب عليه شعور بالدونية تجاه تلك الفضاءات مصحوب بقلق نفسي جمعي عميق يحول دون تكريس حالة من الاستقرار النفسي الذي عو قاعدة هذه النظرية، ودونه لا تنمية ستحدث أبدًا.