كعادته تحرك عبد الله محمود محمد عندما بزغ فجر الصباح بعربة لوري يعمل فيها سائقاً بعد أن طبع قبلة على خد ابنه الصغير الذي كان وقتها في الخامسة من عمره مع وعد منه أن يحضر له ما يسره عند عودته نهاية اليوم.. تحرك من منطقة القرقف الواقعة بمحلية ريفي كسلا صوب حاضرة الولاية، وقبل تواري الشمس عن الأنظار بساعتين أدار محرك عربته بعد يوم جيد من العمل متوجهاً صوب مسقط رأسه، وهو يحمل هدية لصغيره، إلا أنه وفي الطريق سمع صوت انفجار ضخم فأوقف العربة وطلب من مساعده أن يتفحص الإطارات.
مفاجأة غير سارة
جلسنا إلى عبد الله الذي غزا الشيب رأسه بوسط سوق كسلا وهناك سرد قصته بعد أن ارتسمت علي وجهه ملامح لم نتمكن من التعرف على كنهها ذلك أنها مزيج من الألم والرضا، وقال إنه حينما طلب من مساعده تفحص الإطارات عقب سماعه الانفجار الضخم كان يضع في حساباته أن أحدها قد انفجر، لافتاً الى أنه لم يلحظ شيئا غير طبيعي على كابينة قيادة “اللوري” المركبة واسعة الانتشار وكثيرة الاستعمال بالشرق لطرقه الترابية، لتتغير نبرات عبد الله الذي كان يتوكأ على عصاتين ويذهب ببصره بعيدًا وهو يحلق الى مجهول لا نراه، وبدا وكأنه أراد استعادة تفاصيل ذلك اليوم الموافق الثامن والعشرين من شهر فبراير من العام 1999 ويقول: سريعاً أفادني المساعد أن لغماً قد وطأته العربة وانفجر، ومع حديثه هذا شعرت بألم حاد في رجلي وعندما نظرت إليها رأيت الدم قد غطى ثيابي البيضاء، فادركت ساعتها أن “رايشاً” قد أصابني فتجولت ببصري على ركاب العربة الذين كان عددهم يبلغ أربعة منهم حسب الله محمد علي الذي فاضت روحه سريعاً شهيداً لأن إصابته كانت عميقة، كما أصيب في الحادث خالد حاج حسن، ونجا آدم خير من الإصابة.
سألنا عبد الله الذي كان يتأهب لأداء صلاة الظهر عن عمله، فقال إنه ومنذ الحادث الذي تسبب في بتر رجله لم يعد يعمل لأنه مهنته الأساسية تتطلب اللياقة الصحية الكاملة، وقال إنه مكث في المستشفي عاماً كاملاً لتلقي العلاج، ويلفت إلى أنه لم يحصل على تعويض من أي جهة رغم أنه يعول أسرة مكونة من ستة أفراد ويقطن حي الإنقاذ بكسلا، وكشف عن أنه رئيس لجنة ضحايا الألغام وأن الذين تعرضوا لإصابات خطيرة بلغوا 750 لم يجدوا من يقف بجانبهم ويحاول مساعدتهم، مبدياً حسرته على التجاهل الكبير الذي يجدونه من الجهات المسؤولة اتحادياً وولائياً، وأضاف: لماذا تم تجاهلنا بعد توقف الحرب ومن المسؤول عن تعويضنا، ولماذا لا تعمل الحكومة على توفير فرص عمل لنا أو تمنحنا تمويلاً ننشئ من خلاله مشاريع تجارية تدر لنا دخولاً، إنه أمر مؤسف أن ندفع الثمن دون ذنب.
نهاية رحلة
أما الخير آدم عثمان الذي سرد لنا قصته بوصفه أحد المتضررين من الألغام، فقد أشار الى أنه كان برفقة عدد من المواطنين على ظهر لوري في طريقهم من اللفة إلى مدينة كسلا، وفجاة سمعوا دوي انفجار ضخماً أفقد اللوري توازنه، ويشير إلى انفجار لغمين أحدهما في الإطار الأمامي والآخر في الإطار الخلفي، مبيناً عن تعرضه هو وفيصل علي وكمال الكنادي لإصابات متفرقة في الأرجل والأيدي، وقال إنه تم إسعافهم الى مستشفي كسلا الذي ظلوا فيه خمسة أشهر تحملت خلال هذه الفترة أسرهم تكاليف العلاج، موضحاً فقدانه لعمله السابق، فقد كان ترزياً في السوق تدر عليه مهنته دخلاً جيداً، وأضاف: بعد الحادث أظلمت الدنيا في وجهي، وذلك لأنني أعول أسرة تتكون من سبعة أفراد، ولكن تماسكت ولم أدع لليأس مجالاً للتسلل إلى دواخلي رغم أنني كنت أتوقع تعويضاً أو وقوف الجهات الحكومية بجانبي، وحينما لم تفعل لم أجد خياراً غير العمل في السوق في مهن مختلفة، وفي النهاية أحضر ويرزقني الله، لأنه لم تقف جهة حكومية أو منظمة بجانبنا.
سلك ياي والانفجار الضخم
أما الخمسيني أونور محمد طاهر الذي كان أيضاً يتوكأ على عصا بعد أن بترت رجله، فقد تحدث إلينا من داخل سوق كسلا، مشيراً إلى أنه تعرض لحادث انفجار لغم بالقرب من منطقة سلك ياي على تخوم عواد، ويلفت إلى أن الانفجار كان قوياً وتسبب في قذف كل ركاب العربة خارجها ليصابوا جميعاً إصابات متفاوتة، موضحاً أن حالته كانت أفضل من غيره رغم تعرض رجله للبتر، ويضيف: لم نعترض على قضاء الله وتقبلنا الأمر بصدر رحب وإيمان كامل لأن كل أمر المؤمن خير، ولكن ما يحز في النفس التجاهل التام الذي قابلت به المنظمات والجهات الحكومية مصابنا، فنحن ضحايا لألغام حرب ولم نصب في حادث حركة، وهذا يعني أن المسؤولية تقع مباشرة على الدولة، وكان يجب على جبهة الشرق بعد أن أبرمت اتفاقاً أن تضع نصب أعين قادتها قضية الضحايا الذين لو تم تعويض كل واحد منهم بمشروع صغير يدر له دخلاً لأعانهم على مواجهة ظروف الحياة، ولكن للأسف هذا لم يحدث والآن معظم ضحايا الألغام عطالة رغم أنهم يعولون أسراً ويواجهون ظروفاً حياتية بالغة التعقيد.
اليافع في الكمين
بشير الأمين عثمان، وهو شاب في منتصف العقد الثاني من عمره الآن، إلا أنه وقبل عشر سنوات وحينما كان يرعى الاغنام في أودية محلية تلكوك أصاب لغم احدى أغنامه فطار “رايش” وأصابه في رجله ودخل بعدها في غيبوبة وأنقذه مرور رجل حمله في عربة إلى مستشفى كسلا، وهناك تلقى العلاج ورغم أن الأطباء قرروا بتر رجله إلا أن عناية السماء كانت به رحيمة حينما تراجعوا عن هذا الأمر في آخر لحظة، وحينما التقيناه في سوق كسلا سألناه عن وصعه الحالي فقال إنه لا يشكو شيئاً سوى البطالة وذلك لأنه ترك مهنة الرعي لصعوبة حركته بعد الإصابة التي تعرض لها في رجله.
فقدان ابن الأخت
لم يدر بخلد المواطن عثمان أوشيك، أحد سكان منطقة تلكوك بولاية كسلا أن المساحات الشاسعة من الأراضي الصالحة للزراعة وعالية الخصوبة التي تمثل لهم واحداً من أهم مصادر الرزق سيأتي يوم وتتحول الى أرض جرداء لا يستفيدون منها في الزراعة والرعي، ويحكي الرجل الخمسيني بحسرة وأسى كيف حولت الألغام التي خلفتها حرب دارت لعقد من الزمان بالشرق وتوقفت في العام 2006، ويلفت إلى أن الكثير من المساحات مصنفة مناطق خطرة ويمنع الاقتراب منها، ولم ينس الرجل الشرقاوي بث شكواه من تعرض العديد من أبناء منطقته وأهله لحوادث انفجارات ألغام تسببت في إزهاق أرواح بعضهم وإعاقة آخرين، ويحكي بحسرة وأسى تعرض ابن اخته الذي يبلغ من العمر سبعة عشر عاماً لانفجار لغم أودى بحياته، وقال إن الألغام خطر حقيقي يجب أن تضع له السلطات حداً، كما طالب بضرورة تعويض الضحايا.
نظافة وإزالة
كان ذلك جزء من قصص ضحايا الألغام، إذن كيف تمضي عمليات إزالتها، هنا يشير المدير العام للوحدة الوطنية لمكافحة الألغام العقيد الركن عامر عبد الصادق الى أن إجمالي عدد المناطق المسجلة كخطرة بولاية كسلا يبلغ 463 منطقة، كاشفاً عن نظافة 434 منطقة منها، وقال إن المناطق المتبقية بولاية كسلا تبلغ 29 منطقة ويجري العمل في نظافتها، مشيراً إلى أنها ستسلم في مواقيتها المحددة، وكشف العقيد عامر عن تدمير 7609 ألغام مضادة للإنسان، وتدمير 2956 لغماً مضاداً للمركبات، بالإضافة إلى التخلص من 25672 قطعة من ذخائر الأسلحة، لافتاً إلى أن إجمالي الوفيات والإصابات بلغ 480 حالة، منها 118 حالة وفاة، و362 حالة إصابة، معلنًا عن تقديم التوعية بمخاطر الألغام بولاية كسلا لأكثر من 499 ألفاً و283 شخصاً.
استمرار جهود
ويواصل مدير المركز القومي لإزالة الألغام، العقيد الركن مهندس عامر عبد الصادق سرده، مشيراً الى أن ولاية القضارف كان بها “18” منطقة موبوءة بالألغام بمساحة “777132” متر مربع ليتم ضمها بعد تنظيفها وتسليمها لمناطق الإنتاج وفق خطة حكومية محكمة، لافتاً إلى توقيع السودان على اتفاقية ” أتوا ” لإعلان السودان خالياً من الألغام بحلول عام 2019م، كاشفاً عن تنظيف مناطق جزيرة الدود وعطرب وود العجوز والقدي وود كولي ومشروع النيل بشكل كامل من الألغام ومخلفات الحرب، معلناً عن استمرار الجهود ومضاعفتها لإعلان ولايتي كسلا والبحر الأحمر خاليتين من الألغام في مطلع العام المقبل، وقال: سنعمل بذات التصميم والإرادة بالولايتين، مشيراً إلى أن المناطق المسجلة كخطرة بولايات الشرق الثلاث بلغ عددها ” 525 ” منطقة تم تنظيف ” 480 ” منها بطرق إزالة مختلفة وتبقت “45 ” منطقة بولايتي كسلا والبحر الأحمر بعد تنظيف كامل ولاية القضارف، كاشفاً عن التبليغ ومنذ بداية البرنامج بولايات الشرق عن ” 547 ” ضحية بالولايات الثلاث منهم ” 400 ” مصاب و” 147 ” قتيلاً، مؤكداً على تواصل دعمهم لضحايا الألغام والذخائر المتفجرة، وأشار إلى تنظيف محلية تلكوك بمحلية كسلا يجري على قدم وساق، وجدد تعهده بالعمل على جعل ولايات الشرق خالية من الألغام بحلول عام 2017م.
تعويض غائب
إذن من المسؤول عن تعويض الضحايا؟، طرحنا هذا التساؤل على مدير منظمة أصدقاء السلام والتنمية بابكر جميل، والذي أكد عدم اختصاص المنظمات العاملة في مجال الألغام بكسلا بتعويض الضحايا، وقال إن منظمتهم تعمل في برامج التوعية بخطورة الألغام والمساعدة في تدمير المخزون، ويلفت الى أن المنهج المتبع في كسلا لإزالة الألغام عالمي يقوم عليه المركز القومي، وقال إن المنظمات تعتبر حلقة وصل بين المركز والمواطنين وذلك لطبيعة عملها الميداني في التوعية والتبليغ عن الأماكن التي توجد بها ألغام، ويعود بحديثه عن الضحايا ويشير الى حاجتهم للمساعدة وذلك لأنهم تضرروا من الألغام.
أما مدير مركز الأطراف الصناعية بكسلا عباس عمر محمد عبد الكريم فقد أشار إلى أن المركز ساعد في تركيب أطراف لعدد 150 من ضحايا الألغام، مؤكداً مراعاتهم لظروفهم الاقتصادية وقال إنهم يهدفون من وراء ذلك الى إدماج الضحايا في المجتمع.
من يجبر ضررهم
أكثر من ثلاث منظمات أكدت أنها غير مسؤولة عن تعويض ضحايا الألغام بكسلا، وحتى وزارة الشؤون الاجتماعية فإنها لم تمد لهم يد المساعدة ولو عبر مشروعات محدودي الدخل، ويظل ضحايا الألغام في انتظار من يزيل الغبن من دواخلهم ويعتذر لهم عبر مشاريع تغنيهم شر الحاجة.
الصيحة