مُعالجة نظرية التخلف 1
انشغلت الكثير من المدارس الفكرية في النصف الثاني من القرن العشرين باجتراح وصف علمي ودقيق للتخلف من أجل تفسيره ومعالجته، وانطرحت في هذا السياق أسئلة من شاكلة: هل هناك شعوب مصيرها أن تبقى متخلفة؟ وهل للتخلف علاقة بالجنس واللغة والدين؟
ورغم أن الكثير من تلك الجهود النظرية خاصة التي انبنت على ربط التخلف بالجنس واللغة والدين، لم تصمد كثيرًا، إلاّ أن سؤالًا مثل: هل هناك شعوب مصيرها أن تبقى مُتخلفة؟ ظل يلح مُذّاك وإلى الآن، خاصة وأن واقع الدول الأفريقية ما بعد (خروج الاستعمار)، يجعل من إعادة طرح هذا السؤال أمرًا ضروريًا ومهمًا، خاصة فيما يتعلق بحالة السودان، إذ نال استقلاله منذ ما يزيد عن ستين عامًا لم تُحقق خلالها حكوماته المتعاقبة غير مزيد من التخلف والتراجع على كافة المستويات (التنمية الاقتصادية، الثقافة، التعليم، الصحة، البنيات التحتية.. الخ)، كما ظلت تعيد إنتاج الحرب وتدويرها واستخدامها كوسيلة للبقاء في السلطة أطول (سنوات) ممكنة.
والحال أن هذا الصدد السوداني السياسي والتنموي (المتخلف) يحتمل الإخضاع لنظريات القرن العشرين سالفة الإشارة، وتفسيره وفقًا لها، ولعل أهم تلك النظريات ما تعرف بـ(الحلقة المفرغة)، إذ تقول “إن المجتمعات المتخلفة تعيد إنتاج التخلف مع التقدم في الزمن حيث لا تلمس جدوى أو تأثير لما تتخذه من خطوات أو ما تعتقد أنه إنجازات تنموية، بل تعود في كل مرة إلى نقطة الصفر، أي أنها في دائرة مفرغة”.
نظرية (الحلقة المفرغة) تنبني على حيثيات عديدة، أهمها دراسة أنماط حركة المجتمع في التاريخ وعلاقتها بالتقدم والتخلف، ومنها الحركة الدائرية (المفرغة) التي تعيد إنتاج نفسها دون أن تحدث أي تقدم، بجانب الحركة الخطية وتعني السير في خط مستقيم، وهي حركة موجودة نظريا لكنها غير موجودة بل (شبه مستحيلة) عمليًا، والثالثة ما تعرف بالحركة الأهليجية أو البيضوية وتراوح بين التقدم والتراجع.
ويبدو أن سودان ما بعد الاستقلال ينتمي إلى مضمار الحركة الدائرية من نظرية (الحلقة المفرغة) على المستويين السياسي والاجتماعي حيث تنحو الحكومات كما المجتمع إلى معالجة (نتائج المشكلة) لا جذورها، وبالتالي يُعاد إنتاجها في شكل دائري باستمرار، وهذا ما يفضي إلى ما يعرف بـ (التركيز/ المركزية)، ما ينجم عنه اختلال في التوازن الجغرافي والموضوعي، ناتج عن عدم توزيع مكتسبات التنمية بعدالة على كافة المناطق، كما يفضي (التركيز) بطبيعة الحال إلى هدر الموارد بشكل جائر، بحيث يستهلك (جيل ما) الموارد كاملة دون أن ينتجها أو يطورها أو يعيد انتاجها حتى، بل ويستمر في استنزافها.
النتائج المباشرة لذلك تتلخص في سيادة ثقافة التستر التي ترفض الواقع والحقائق وتعمد إلى إنكارها بل ترفض الاعتراف بالأخطاء، وبالتالي تكرس ثقافة مقاومة التغيير ورفضه خوف إفضائه إلى مستقبل أسوأ، فيما الحقيقة أن السلطة وهوامشها هي التي تتنج وتروج لهذه الثقافة بأن توهم المجتمع بأن البديل سيكون أسو دائمًا. (وغدًا نعود).