التسوُّل بالآباء والأبناء.. جدلية الحاجة والاحتيال.. استعطاف واستغلال

التسوُّل بحسبانه ظاهرة اجتماعية مرفوض ومنبوذ في مجتمعنا، خصوصاً إن كان المتسول شاباً قوي البنية عاقلاً لا يشكو مرضاً أو علة، فيواجه بعين الاحتقار من كل يقابلونه.. والذين يستغل تعاطفهم مع الفقراء وأصحاب الحاجة، فيرمي إلى مسامعهم (موشحاً) من عبارات الاستعطاف والاستدرار والاستمالة لقلوبهم وتليينها..

ذلك التسوُّل آنف الذكر ليس حصرياً في مجتمعنا، بل حتى دول العالم الأول معلوم أنها لا تخلو منه، بيد أنه ليس بالصورة المتفاقمة التي نراها ماثلة بيننا.. ولا حتى بالطرق والوسائل المستخدمة عندنا للتسُّول (ملابس ممزقة ورثة ومتسخة.. دراجات ذات أرجل ثلاث.. الكشف عن الجزء المعاق من الجسد وإن كان عورة.. وغيرها من الوسائل).. وقد اعتدنا على تلك الصورة ورؤيتها كل يوم منذ قديم الزمان – كما روى لنا الأقدمون منا -، ولكن الذي لم نعتد عليه هو استخدام النساء وكبار السن والأطفال الرُضّع في التسوُّل.

نماذج عديدة
استخدام هذه الفئات في التسوُّل يأتي استغلالاً للتعاطف الكبير الذي تجده في المجتمعات، فوجود امرأة في قوم مزدحمين من أجل رغيف خبز كافٍ بأن تُخلى لها مساحة تأخذ خلالها حزمة من أرغفتها وإن جاءت متأخرة عن الرجال بساعات.. أما وجود كبير السن في المواصلات فلا شك سيتصدى شاب أو يافع لمهمة الوقوف بدلاً عنه، وكذا الصغير دائماً محمول ومعذور وغير ملام في كثير من المواقف.. ولذا تأخذ هذه الفئات الأضعف في الحلقة نصيب الأسد من التعاطف، ومن هذا الجانب كان أصحاب القلوب غير النقية من الشباب المتسولين يستخدمونهم لاستدرار ذلك التعاطف بكل سهولة.

رأي الدين
أما من ناحية دينية، فيُعدُّ التسوُّل مذموماً لحديث النبي الكريم صلى الله عليه وسلم “ما يزال الرجل يسأل الناس حتى يأتي يوم القيامة ليس في وجهه مزعة لحم”.. وحرّمه الفقهاء على غير المحتاج وقالوا إنما أُبيح للمضطر بسبب فاقة أو لحاجة وقع فيها أو لعجز منه عن الكسب.. ومن تسوَّل لغير حاجة يُعدُّ آكل سُحت.. وقد أصدر مجمع الفقه الإسلامي فتوى في العام في مارس 2015 تجيز وضع قانون لمكافحة التسول والتشرد بالعاصمة السودانية الخرطوم، باعتبار أن التسوُّل جريمة.

أسباب منطقية
كما هو معلوم للجميع تفاقُم ظاهرة التردي الاقتصادي في البلاد وتأثر الناس به لدرجة تفشي ظواهر عدة من بينها التسوُّل، وهذا نتاج طبيعي لزيادة رقعة الفقر في البلاد وبالمقابل الارتفاع الجنوني للأسعار، لذا استشرت تلك الظواهر، ما يجعلنا نحمل في ثنايانا أعذاراً للمحتاجين جداً والمعاقين للتسوُّل – مع كثير من التحفظ – ولكن ليس من حقنا إبداء أي عذر للشباب والشابات الأصحاء للتسوُّل بتلك الفئات الضعيفة.. فالتسوُّل ليس حديث عهد بيننا بل عرفته الأجيال قديماً.. حتى في عهود كانت فيها الأوضاع الاقتصادية على أفضل ما يكون، ما رماه محللون وخبراء إلى أن متسولين كثيرين لم يكونوا يمارسونه إلا نتيجة لأمراض نفسية تعتريهم، وهم بالكاد غير ذوي حاجة..

حكاية واقعية
الساعة تعدو نحو الحادية عشرة ليلاً أوقفني شاب، وعلى مسافة ليست بعيدة عنه امرأة أربعينية، ليخبرني أن تلك المرأة أمه وأنهما من قرية (…..) – أعلمها جيداً – وقد جاءا لتلقي العلاج بالعاصمة، إلا أن ما معهما من مال قد نفد؛ ما حال دون إكمالهما خطوات العلاج.. وطلب مني مدهما بما أستطيع.. لم تكن الواقعة تلك حدثت لأول مرة فقد عايشتها وعايشها غيري كثيرون، فهناك العديدون الذين يقودون نساءً وكبار سن ويحملون أطفالاً يتسولون بهم، خصوصاً في الطرقات قرب المستشفيات ومراكز تلقي العلاج، فمنهم من يجد آذاناً صاغية وأيادي مغلولة ولا نلوم أحداً في ذلك، ومنهم من يجد آذاناً صاغية وأيادي مبسوطة، ومنهم من يجد آذاناً مغلقة وأيادي مغلولة.. وأيضاً لا نلوم أحداً في ذلك، فكل شخص وظروفه واعتقاده ورأيه.

صعوبة التفريق بين الفئتين
التسوُّل بالآباء والأمهات والأبناء – حسب ما يزعمون وإن صح زعمهم – ظاهرة غير حميدة يمارسها أشخاص ذوي عاهات وعلل نفسية، تدفعهم لوضع هؤلاء الضعفاء في مواضع أدناها تعرضهم للإحراج بصورة قد تحملهم على الاعتياد عليها، وبالطبع نعذر – مع التحفظ – الصادقين منهم، فالأخيرون هؤلاء – بلا شك – قد صُدت دونهم أبواب ونوافذ؛ لذا قادتهم أقدامهم للناس في الطرقات.. أما الذين جاءوا بأهليهم أو غير أهليهم، فقد تسببوا في بعثِ اعتقادٍ لدى كثيرين بأن معظم المتسولين ليسوا ذوي حاجة بل جناة محتالين.. فصعُب على الناس التفريق بين الفئتين.. والأدهى والأمر أن هناك أجانب يمارسون التسوُّل بذات الأسلوب الاستعطافي والاستغلالي، وأشد ما في الأمر ضرراً هو تعريض الأهل إلى الاحتقار والإهانة والإذلال، فكيف بالآباء والأمهات، الذين قال الله تعالى: “فلا تقل لهما أُفٍّ” ناهيك عن تعريضهم للذل والإحراج ونظرات التحقير.

الرد بلطف
الله سبحانه وتعالى رحيم بعباده ويعلم ما بداخل الأنفس ويعلم المقاصد والنوايا وهو الخبير بكل شيء؛ لذا أمرنا أن لا ننهر السائل وقال “وأما السائل فلا تنهر”.. وفي الآية عموم يدخل فيه سائل المال والتصدُّق، وقد كان الأمر بأن نرده بلطف إن قرّرنا ردّه.. ولولا ذلك لوجد المتسولون بأهليهم وغير أهليهم توبيخاً وربما ضرباً وركلاً.. ولكن المولى الكريم نهانا حتى عن نهرهم.

الخرطوم – عصمت عبد الله
صحيفة اليوم التالي

Exit mobile version