“اخطف واهرب وتزوّج”..ليست وحدها الأفلام السينمائية أو الروايات من تحمل هذه النهايات.. ففي تشاد كثيرة هذه القصص لكنها تظل واقعاً بعيداً عن الخيال.
كانت تسير بخطوات هادئة على طريق غطّتها الوحل وأكوام من الحجارة، عائدة من مدرستها.. “وازينا” فتاة تشادية لم تتجاوز الـ 17 من عمرها، لم تكن أبداً تعتقد أن تلك الرحلة من المدرسة إلى البيت ستكون الأخيرة لها وهي عزباء.
فمن تلك الطريق الموحلة، اختطفتها مجموعة من الشباب التشاديين، لتترك على قارعتها محفظتها الصغيرة المزدحمة ببعض الدفاتر والكتب، إضافة إلى قطعة قاتمة من القماش كانت تستخدمها وشاحاً لها حيناً، وغطاء للرأس في أحيان أخرى.
الخاطفون الذين تجهل هويتهم هم زوجها المستقبلي وأصدقاؤه.. نعم، المشهد قد يبدو وكأنه مفتعل، غير أن واقع الحال يشهد بخلاف ذلك، بيد أن عملية الاختطاف تلك هي في الحقيقة طريقة تقليدية لطلب الزواج، أو بالأحرى للزواج، بما أن الطريقة لا تفترض انتظار الموافقة أو الرفض، رائجة في بعض المناطق الشمالية في تشاد.
وبغض النظر عن البعد “الرومانسي” لهذه الطريقة، فإن هذا التقليد الغريب، نوعاً ما لا يأخذ بعين الاعتبار عامل القبول من جانب الفتاة، إذ يكفي أن يُعجب الفتى بها ليكون ذلك كافياً جداً للتخطيط لاختطافها والزواج بها، وهذا بالضبط ما فعله “عودة داوود” حين اختطف “وازينا”.. هو فقط أراد الاقتران بها، فكان أن اتّبع ما تقتضيه وتجيزه تقاليد بلدته، وها هي الفتاة أخيراً في بيته !
“لم يكن زواجاً قسرياً، كما أنه لا يعتبر زواجاً غير شرعي أيضاً”، يقول عودة والذي أصبح اليوم أباً لطفلين.
زواج قسري أم طبيعي
تفاصيل زواجه استعرضها للأناضول دون تحفّظ. فما يراه آخرون “زواجاً قسرياً” يعتبره هو زواجاً عادياً مكتمل الأركان، بما أنه يتماشى مع تقاليد قريته.
بدأ يروي دون حرج يعتريه وهو يتحدّث بإسهاب عن تفاصيل “الكمين” الذي نصبه لزوجته المستقبلية في ذلك الحين، قبل أن يحملها على بعد نحو 10 كيلومترات من مكان إقامة عائلتها، وينصب خيمة أُعدّت مسبقاً خصيصاً لاستقبال “العروس”.
قام بتقييد عروسه كـ “إجراء احتياطي” منذ الليلة الأولى للزواج، وعلى امتداد أكثر من أسبوعين على الأقل، ووفق ما تقتضيه التقاليد التي تختلف في هذه الجزئية من قرية لأخرى. إجراء قال “عودة” إنه يمنع فرضية هروب العروس خصوصاً في الفترة الأولى، حيث لم تستوعب بعد “صدمة” اختطافها وزواجها من رجلٍ لا تعرفه حتى.
قصة “عودة” لا تعدّ استثناء في تلك الأنحاء، فالزواج غالباً ما يتم بتلك الطريقة. “حاميدي إساكا” مزارع تشادي، متزوج بـ 3 نساء، قال إنه اختطف زوجته الأولى.
يروي “إساكا” للأناضول “في ذلك الوقت لم تكن لديّ الإمكانيات اللازمة لتغطية نفقات الزواج، مثل ابتياع ثياب جديدة ومنزل وأثاث وغيره، كما تفرضه عائلة الزوجة، وتبعاً لذلك، قررت مع أصدقائي اختطاف زوجتي”.
أما بالنسبة للنساء المختطفات، فالتجربة قاسية للغاية، مع ما يرافقها من صدمة، غير أنها تظل “شراً لابد منه”، تقول “وازينا” للأناضول: “صحيح أنه لم يسعني نفسياً قبول الأمر في البداية، لقد كان من الصعب علي أن أجد نفسي زوجةً لرجل لا أعرفه ولم أختره. لقد كان الأمر مؤلماً بالفعل لوقت ما، حتى إني أردت الفرار، غير أنني وجدت نفسي في النهاية مرغمة على المحافظة على كرامتي وملازمة بيتي”.
رضا بالأمر الواقع
وأردفت بذات اللهجة الممزوجة ألماً ورضاً بالأمر الواقع: “في كل الأحوال فإن عملية الاختطاف لا يمكن أن تقع إلا بمساعدة وتواطؤ من طرف ثالث مثل العمة أو الصديقة أو غيرهما.. لا يمكننا فعل الكثير حيال ذلك، فللتقاليد كلمتها الأخيرة هنا”.
“محمد فضة” عالم الاجتماع التشادي والأستاذ بجامعة “توكرا” بالعاصمة نجامينا، رأى أن هذه الطقوس “ليست اختطافاً بمعنى الكلمة، بل هي رمز حياة اجتماعية خاصة بمجموعة بأسرها، تقيم خلالها قدرات الرجل على الاستجابة لاحتياجات أسرته”، قائلاً إن “اختطاف امرأة دليل على هذا الالتزام”.
مئات الفتيات من أمثال “وازينا” يتعرفن على أزواجهن بهذا الأسلوب في تلك المناطق، سنوياً، وفق “فضة”. فطريقة الزواج هذه تلقى رواجاً في العديد من مناطق تشاد، وخصوصاً في الشمالية منها، حيث تستقرّ عرقيات مثل “غوران” (شعوب بوركو وإينيدي وتيباستي)، و”الزاقاواس” (شمال)، إلى جانب “الكوكاس” (غرب) و”الكانيمبوس” بمنطقة كانيم وبحيرة تشاد.
ممارسات شائعة أيضاً لدى شعب “بواس” المستقر بين بوركينا فاسو ومالي. “سيسيل ليغوي” أستاذ الأنثروبولوجيا اللغوية، كتب يقول في مقال له بعنوان “ماذا تقول الأسماء؟”، إن “عملية الاختطاف لدى هذا الشعب تحظى بهامش من الحرية نوعاً ما، ذلك أن الأمر غالباً ما يكون مدبّراً، وعائلة الفتاة تكون على علم بالاختطاف وموعده، ولذلك تتظاهر بعزل ابنتها طوال شهر من الزمن، قبل أن تختطف الأخيرة، وهكذا يتم الزواج”.
ممارسات لا تبدو غريبة بالنسبة لشعوب تحكمها عادات وتقاليد تستميت من أجل المحافظة عليها، فرغم أن الزواج عن طريق الاختطاف (في حال كانت العروس قاصراً) يعتبر جناية بحسب المادة 289 من القانون الجنائي في تشاد، إلا أن عدداً كبيراً من قرى الشمال لا تزال متمسكة بهذه التقاليد.
وتنص المادة المذكورة من القانون التشادي على أن “كل من يختطف أو يحاول اختطاف أو تحويل وجهة قاصر دون الـ 15 من عمرها، يعرّض نفسه لعقوبة بالسجن من عامين إلى 5 سنوات، وغرامة مالية تتراوح من 5 آلاف إلى 100 ألف فرنك أفريقي”.
النص نفسه يوضح أنه، ورغم ما تقدّم، إلا أنه “في حال تزوّجت القاصر المختطفة أو التي وقع تحويل وجهتها، خاطفها، فإنّه لا يمكن تتبّعه قضائياً إلا من قبل الأشخاص المؤهّلين قانونياً لفعل ذلك، لطلب إلغاء الزواج، كما أنه لا يمكن إدانته إلا إثر النطق بحكم بطلان الزواج”.
إطار قانوني يبدو أنه لا يعني كثيراً العديد من القرى التشادية مثل “قيرغيزستان”، حيث تمارس تقاليد الاختطاف قبل الزواج بشكل كبير، بل إنه لم يحدث وأن تقدّم أي والد فتاة مختطفة بشكوى إلى السلطات القضائية، طلباً لإبطال زواج ابنته، بحسب شهادات لعدد من سكان البلدة.
أما بالنسبة للمشرّعين، فإنه لا يسعهم أبداً “إيقاظ الأسد النائم”، في إشارة إلى المساس بالتقاليد، مع ما يعنيه ذلك من احتقان عرقي من شأنه أن يخلق أزمة بين طوائف البلاد وسلطاتها، بحسب أحد نواب البرلمان التشادي، في تصريح للأناضول مفضلاً عدم نشر هويته.
ومع أنه من الصعب الحصول على إحصائيات بشأن عدد الفتيات اللواتي يتعرّضن للاختطاف قصد الزواج في تشاد، بما أنه من النادر أن تبادر العائلات بالإبلاغ عن حوادث مماثلة، خوفاً مما يعتبرونه “فضيحة”، إلا أن بعض المختصين يرجحون أن الرقم يمكن أن يكون لافتاً، بيد أنه يظل غير دقيق بالمرة، ويصعب حصره.
هافغنتون بوست