يعتبر جعفر بن أبي طالب أول سفير للمهاجرين إلى بلاد الحبشة. وعندما هاجر المسلمون هناك بقيادته فراراً بدينهم من أذى قريش، أرسلت قريش إلى النجاشي عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة وطلبت منه تسليمهم، وبعثت له بهدايا ثمينة، فجاء في مرافعته أمام النجاشي:
“أيها الملك، كنا قوماً أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، يأكل القوي منا الضعيف”.
فقد بدأ جعفر بن أبي طالب بتقبيح الحالة التي كانوا عليها قبل الإسلام، وتصوريها بصورة تأنف منها النفوس الكريمة، وتأباها العقول السليمة، وهو بهذا يرسل إشارة واضحة أيضًا تتضمن أن هذين الرسولين ما زالا على هذه الصورة الخبيثة وتلك الأخلاق الفاسدة.
وأضاف في المقطع الثاني: “فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه”.
وهنا يشير جعفر إلى أن الذي جاء بهذا الدين الجديد والمخالف لما هم عليه جميعًا ليس رجلاً أفَّاكًا كذّابًا يريد خداع الناس من أجل مصلحة ما، بل هو صادق أمين، وطاهر عفيف، ومن أعرق أنسابنا.
وإزاء هذه النعوت لم يستطع عمرو بن العاص ولا عبد الله بن أبي ربيعة أن يردّ بكلمة واحدة؛ فقد كان رسول الله (ص) فوق كل شبهة.
أما المقطع الثالث من مرافعته فيمجد من صور الإسلام، وهذا المقطع في غاية في الروعة، فبعد أن عرض لصورة الجاهلية الحقيقية، أخذ في عرض الصورة المقابلة لها وهي صورة الإسلام، التي جاء بها هذا الرجل الصادق الأمين (ص)، فقال: فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنة، وأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئًا، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام.
وفي المقطع الرابع وهو غاية في الذكاء والتوفيق، قال: “فصدقناه، وآمنا به، واتبعناه على ما جاء به، فعبدنا الله وحده فلم نشرك به شيئًا، وحرمنا ما حرم علينا، وأحللنا ما أحل لنا، فعدا علينا قومنا، فعذبونا وفتنونا عن ديننا، ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله، وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث.
وهكذا سيطر جعفر تمامًا إلى مشاعر النجاشي، ويختم بيانه بهذا المقطع السياسي الحكيم: “فلما قهرونا وظلمونا وشقوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا، خرجنا إلى بلدك، واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا ألاَّ نظلم عندك أيها الملك، وحينها سأله النجاشي: هل معك مما جاء به عن الله من شيء؟ قال جعفر: نعم. قال النجاشي: اقرأه عليَّ، فقرأ جعفر سورة مريم، لم يتحمل النصارى أثر تلك الكلمات المعجزة، فما تمالكوا أن انهمرت دموعهم غزيرة فياضة، وبكى النجاشي حتى ابتلت لحيته، وهنا وبوضوح أخذ النجاشي القرار وقال: “إن هذا والذي جاء به موسى (وفي رواية: عيسى) ليخرج من مشكاة واحدة ، وصدق رسول الله (ص) وصِدق جعفر ومن معه. ثم التفت إلى عمرو وعبد الله بن أبي ربيعة وقال لهما: “انطلقا، فو الله لا أسلمهم إليكم أبدًا”.