أمريكية وزوجها وراء فكرة نشأته وتأسيسه معهد الآفاق بعطبرة.. المعاقون يدفعون فاتورة العمل الطوعي

عميد المعهد: المصروفات تبلغ 20 ألف جنيه في الشهر ودخلنا 12 ألف جنيه فقط
مدير قسم المدرسة: الصغار يواجهون ظروفاً بالغة التعقيد والمعهد في حاجة للدعم

بدأ معهد الآفاق الأوسع لتأهيل الأطفال من ذوي الاحتياجات الخاصة بمدينة عطبرة بداية فعلية في العام 1974 بمباني مدرسة كمبوني عطبرة، بقوة طلابية بسيطة كان قوامها سبعة تلاميذ إلى أن صعد العدد إلى 17، ليتم نقله بعد ذلك إلى المباني الحالية للمعهد، وهو يعتبر أحد أشهر وأكبر المعاهد التأهيلية للمعاقين في عموم أفريقيا، فبعد أن عاش زهواً في طليعة إنشائه، بات يشكو الجفاف.. بحسب ما لمسناه في جولتنا بداخله.

ملامح عتيقة
المساحة الشاسعة تلفت الأنظار لحظة المرور في الطريق المؤدي للمعهد، فالرقعة الفسيحة تمتد جنوباً وتلامس حي الصفا الذي يجاور مستشفى عطبرة، وتمضي شمالاً حتى حي السيالة الجديدة، وغرباً حتى حي الداخلة بمساحة تم التصديق لها من قبل الحكومة حينها.

وسُوّر المعهد بالطوب والأسمنت، ما أضفى عليه مظهر القوة والعراقة والجمال الذي شهد عليه زمن سالف وينعاه زمن حالي، وأبواب متينة تم توزيعها حسبما رأت إدارة المعهد حينها، ووفق العرض والطول اللذين يتمتع بهما، كل ذلك كان كفيلاً ومدعاةً لفتح العديد من أبواب التساؤلات، وإثارة مشاعر الإشفاق على ما تواتر من قصة إنسانية رائعة قامت بها (مس كرن) الأمريكية الأصل وزوجها (جورج طومسون)، الذي كان يعمل مهندساً بكلية الهندسة بعطبرة، واللذان حضرا من أمريكا الشمالية، كما قالت الأستاذة خديجة عوض عبد الجبار، مدير المدرسة بالمعهد لـ(الصيحة) وهي تشير في قولها، الى أن (مس كرن)، لاحظت وجود عدداً مهولاً من الأطفال المعاقين بالمدينة، وما حفز (كرن) على الفكرة هو موقف أخيها الذي وُلد مصاباً بمتلازمة داون، بعد أن شهدت وعايشت معه مكابدته الحياة بإعاقته التي بالطبع خصمت منه نهج العادية وأسلمته إلى العوز كطبعٍ أساسي، وكانت تنفذ جهودها عبر منظمة (إم سي سي) التي تهتم بشأن الأطفال المتخلفين عقلياً، ومنظمة (سي بي إم) الألمانية، ويتم تمويل المعهد من تلك المنظمات وحكومة الولاية بالمساهمة، وكانت أعمار الذين تمت إضافتهم للمعهد آنذاك ما بين 2-8 سنوات، وكانت تعلمهم النشاطات التي تشجع النواحي الاجتماعية والجسمانية والوجدانية والنفسية والنمو العقلي، فالمعهد مسجل باعتباره جمعية طوعية، ويديره مجلس إدارة منتخب من الجمعية العمومية الممثلة للآباء والمعلمين والمتطوعين وأصدقاء المعوقين.

بين الوقوع والقيام
داخل باحة المعهد، تلحظ بعض الترميم الذي لحق بالجُدُر والحوائط المتفرقة، بعضها للكافتيريا، والآخر كان قسمة شبه متساوية بين الفصول الدراسية ومكاتب الإدارة ومكتب عميد المعهد.

وتشير الأستاذة آمال عبد الرازق وداعة والتي بدأت تجربة التدريس به منذ 34 عاماً مضت، إلى أن المعهد يقف بين كل ذلك صامداً لأربعين سنة ويزيد، فمشهد البناء الصلب الذي شكّل الهيئة العامة التي تشمل كافة أقسام المعهد بمكاتبه المختلفة، إضافة إلى إقامة أقفاص تربية الدواجن التي شُيّدت على بعد أمتار من مواقع الدراسة. وتزيد آمال، إن تربية الدواجن الملحقة بفناء وسوح الصرح الإنساني باتت تمثل الممول الرئيسي للمعهد بعد أن افتقر إلى الدعم وبات يشكو الفاقة، وأكدت أن الاعتماد عليها أصبح كلياً في سد ثغرات الاحتياج، والتي هي الأخرى تضافر جهودها في رتق أولئك الطلاب الذين يجيئون وعلى كل واحد ملمح من أوجه الاحتياج الخاص أوجده الله تعالى به، لتُشكّل كل تلك الملامح حاجة أكبر وألماً يعتصر القلب.

صورة أخرى وأنت تدخل إلى صالات أقيمت أمام المكاتب، والطلاب يستقبلونك بكل حب الدنيا ونقاء لم تعرفه إلا قلوبهم الصافية، حتى أنك تغالب أدمعاً كثيفة ترغمك على ظهورها وانحدارها المترع بمزيج من المحبة والإشفاق والمساندة الروحية.

أوجه الاحتياج
أول ما يظهر للزائر ذلك الزي الموحد الذي يرتديه الطلاب، والذي كان من لونين، الزهري والأزرق اللذين اتحدا ليضفيا على كل تلميذ وهجاً يمازج الحبور الذي يكسو وجوههم الهاشة الباشة فور رؤيتهم لك وأنت تطوف بالفصول الدراسية.

وأكدت الأستاذة خديجة عبد الجبار، أن هذا الزي بمثابة كساء جديد جادت به أيادي ديوان الزكاة مطلع العام الدراسي الحالي بعد أن اهترأ زيهم القديم وباتت الحيل محض تفكير وليس هناك من أيدٍ محسنة إلا من بعض الدعم من حين لآخر لوجبة الإفطار والتي يتكفل بها المعهد لطلابه منذ نشأته، وقد أشارت خديجة الى أن مشكلة الترحيل باتت معضلة حقيقية، فأصبح الاعتماد كلياً على وارد إيجار أقفاص تربية الدواجن والذي يتم إدخاله لصالح الوقود للسيارات التي تعمل بنصف عمر خاصة وأن الكلفة الكلية للوقود تبلغ في الأسبوع الواحد 2 ألف جنيه، وهم يعانون ويغالبون أحلك الظروف لكي يضمنوا استمرارية المعهد في دوره الإنساني والخدمي والدراسي للطلاب ذوي الاحتياجات الخاصة، وزادت خديجة أن المشاكل الداخلية فيما يخص الجانب الإداري، فالممارسة القديمة المكتسبة لها كمدير للمدرسة أهلتهم لمعايشة بعض المشكلات، والعمل على حل البعض الآخر ورفع أصوات المناشدة لشحذ الهمم والقلوب الرحيمة للالتفات والاستجابة لاستغاثة المعهد وهو بين براثن العوز والفقر المدقع.

معاناة الأقسام
وأوردت الأستاذة خديجة في معرض حديثها لـ(الصيحة) أن بالمعهد عدة أقسام على رأسها قسم الصحة والذي يُعنى بشأن الأطفال المعاقين جسدياً، وأكدت أن بالقسم معاناة حقيقة في الافتقار إلى الأدوات المعينة على إجراء التمارين والتدريبات الكفيلة بتقوية الطفل ذي الاحتياج الخاص، الأمر الذي يساعد في تقليص إعاقته إلى وضع سليم يؤهله إلى أن يعتمد على نفسه، وتضيف أن المنظمات باتت تغض الطرف عن المؤونة بعد دعمها الذي كان شاملاً وانقطع بحجة توجيهه لدعم المناطق المتضررة من الحروب، وشأن هذا القسم كالعديد من الأقسام التي تُعاني الأمرّين، وهناك أقسام الصحة والعلاج الطبيعي، قسم المدرسة.

وتضيف الأستاذة خديجة أن هناك شحاً، بل وفقرا حقيقياً في ما يجتاحه المعهد من نواحٍ تحسب أساسية، وتشير إلى ضرورة إشراك الجهود المجتمعية والالتفات لمواطن الحاجة الماسة، كالإسهام في وجبة الإفطار، وتوفير مُسيرات العمل، كحدٍ أدنى شراء الوقود لضمان ترحيل كل طالب من وإلى منزله، وزادت خديجة أن الوضع أصبح مخيفاً للجو العام الذي يسود أركان المعهد، بعد ان تفاقمت الأحوال بضعفها المزري الذي يهدد مسيرة المعهد، فالقوة الطلابية الحالية والتي يبلغ قوامها 85 تلميذاً، تعيش ويلات الفاقة التي تواجه إنشاء بعض المشاريع الزراعية داخل باحة المعهد، خاصة وأن المساحات الخالية كبيرة جداً، وأضافت خديجة، أن إنشاء مثل تلك المشاريع ستكون بمثابة المنجد لرفع الكفاف الذي يكتنف هذه القلعة الإنسانية.

نظرةٌ لميسرة
الأستاذ الهادي العقيد، عميد معهد الآفاق الأوسع، قال لـ(الصيحة) إن المعهد يهدف لتأهيل المعاق ليصبح عضواً فاعلاً في المجتمع، لكن هذا الأمر شاق فمعوقات العمل تكيل كل يوم صاعاً، رغم الخدمات الجليلة التي يقوم بها طاقم المعلمات اللائي يبذلن ما بوسعهن من جهد أغلبه أصبح شخصياً، وأضاف أنه في كثير من الأوقات يلجأون كإدارة إلى سد الثغرات التي تتسع حتى على صعيد النفقة الداخلية لكل ما هم أمر التسيير الذي يعني بأمر الأقسام التي تُنشئ وتُهيئ التلاميذ، وزاد الأستاذ الهادي أن الأقسام المحورية بالمعهد تحتاج للدعم الحقيقي، وبذا يرفعون المناشدة لكل ميسوري الحال لمد يد العون والمساعدة، لأن المعهد أمام منحدر حقيقي، فالوضع العام به تسوده المهددات الحقيقية والتي تعيق مفصلية العمل في كل الأقسام.

صعوبات تُعيق الإدارة
ومضى الأستاذ الهادي العقيد قائلاً إن المعهد كان يقوم على دعومات المنظمات الأجنبية، ولكن بعد إصدار القرار الرئاسي في العام 2009 والذي أفضى إلى سودنة العمل الطوعي، توقف الدعم الأجنبي الذي كان يمثل ركيزة شاملة لعمل المعهد، فقد أضرّ بالمعهد أيما ضرر، وأضاف أن ما زاد الطين بِلّة انفصال جنوب السودان الذي جفّف كل أنواع ومسارات العون الخارجي، فالمعهد حالياً يواصل مسيرته بالدعم من المواعين الذاتية، في الوقت الذي لم يكن مهيئاً نفسه لمثل هذه المحكات التي باتت تمثل عقبات وصعوبات تعيق المعهد في تحقيق الغرض الأساسي الذي أنشئ لأجله، كونه في بادئ الأمر أُقيم بفكرة أنه يدعم دعماً أجنبياً محضاً، وأشار الهادي أن المصروفات تبلغ 20 ألف جنيه للشهر الواحد، والدخل يبلغ 12 ألف جنيه، فالعجز كبير ويرهق كاهل الإدارة إذ يبلغ 8 آلاف جنيه شهرياً ينتظر سداده لإغلاق الفروقات، وأضاف أن هناك بعض المحسنين الذين يتبرعون من حين إلى آخر بعض الدعومات البسيطة، ولكن يظل الاحتياج خطراً يعيق مسيرة العمل، بعد أن بات الترحيل أولى هذه المشكلات التي تهدد أمن المعهد، فالآن نقوم بإكمال حاجة الطلاب من جيوبنا بعد أن عافتنا حتى أبسط الحِيل، وأشار الهادي إلى أن قسم التدريب كقسم يعتبر أساسياً للتلميذ المعاق، ويحتاج إلى توفير الأجهزة التي تجعل المعهد في مصاف التأهيل الحقيقي، خاصة وأن العصر أصبح متسارعاً في تطور منوالي، فالأدوات التي يمتلكها المعهد حالياً ما زالت تقليدية وبدائية، ويحتاج بعضها إلى الإضافة، وجلب المزيد من المتطور مثلها، لكي يكون التأهيل والتدريب كلياً وعميقاً، ويضمن بذلك إخراج تلاميذ يفخر بهم المجتمع ويكونون إضافة حقيقية، وفي المقام الأول يصبح المعاق نافعاً لنفسه في المقام الأول قبل كافة المقامات والأصعدة، فالخلل في التدريب واضح وكبير، وأكد وصول بعض الأدوات من دعم خارجي، لكن معوقات التدريب ما زالت تسيطر على طبيعة العمل، فهو بمثابة الضرورة الحقيقية.

حاجة ماسة
وأبان الهادي العقيد أن غرفة المصادر تحتاج لتعميمها في كل الفصول بمختلف الأقسام والتي تعنى بكل أنواع الإعاقات الجسدية والعقلية والسمعية، للرفع من قدرات الدارس، والعمل على تعديلها من خلال برامج محددة، إضافة للحاجة الماسة لأجهزة التقييم التي تحدد درجة الإعاقة التي يأتي بها التلميذ لأول مرة ليتم بعد ذلك تصنيفه وفق منهج المعهد الدراسي والتأهيلي، وأوضح أن أمر المواكبة على صعيد التدريس فيما يخص كل الأقسام ضروري، وهو كإدارة يناشد الجهات التي يمكن أن تدعم موقف المعهد الحالي، ووضع رؤية دعم إستراتيجية مستقبلية تضمن سير الدراسة به، بعد أن بات غول الخوف مهدداً خطيراً يحدق بروح الدراسة، وزاد الهادي في قوله، إن المجتمع مازال يتحفظ عن الإتيان بطفله المعاق للمعهد، وكأن المعاق يشكل عاراً على أسرته، فهو جزء لا يتجزأ عن المجتمع والأسرة، فهم معنا بالمعهد في أيدٍ أمينة، وأضاف أن ضرورة إحضار الطفل ذي الاحتياج الخاص للمعهد، تضمن له تأهيلاً يصنع منه شخصاً يعتمد على نفسه في كل شيء، وناشد الهادي بوجوب وضع حال المعهد على السطح في كافة أجهزة الإعلام، فالأمر أصبح يتطلب تضافر كافة الجهود المجتمعية والحكومية، لأن هذه الشريحة هي موطن الاحتياج الأصلي، وذكر الهادي، أن الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز فرض مرتباً لكل ذي احتياج خاص (أي معاق)، من الدولة لتسيير أمره، بل وزاد على ذلك بصرف مرتب لمن يتكفل بإيصاله المسجد ويعيده إلى منزله، وأشار إلى ضرورة الالتفات للمعاقين بالمجتمع، خاصة وأن معهد الآفاق الأوسع من أكبر المعاهد المعنية بتأهيل المعاقين بكافة أنواع الإعاقات على مستوى أفريقيا.

عطبرة: تيسير الريح
صحيفة الصيحة

Exit mobile version