اللهث خلف الحشود
* لا يختلف اثنان البتة على التراجع المخيف الذي شهدته أسهم معظم الوزراء والولاة في بورصة تقييم الشارع العام في السنوات الأخيرة، فقد حلت الشعارات محل الخدمات؛ وتمددت الوعود الوهمية على حساب المشاريع الحقيقية، وعصفت المحسوبية بالتنافس الشريف، وبات الولاء أهم من الكفاءة، وخدمة المواطنين أبعد ما تكون عن خريطة عمل المسؤولين، وبعد كل ذلك التردي الأخلاقي فإن (الفساد للأسف الشديد عم معظم أرجاء البلاد)..!
* لا يحتفي الناس بمسؤول يتم تعيينه ولا يحزنون لآخر فارق الكرسي غير مأسوفٍ عليه.. خطابات المسؤولين متشابهة حد الاستنساخ.. إطلاق الوعود العنقودية وإعادة إنتاجها (خطباً ووعداً وتمنياً) لعبة يجيدها معظم من يتم تكليفهم بتصريف شؤون وزارة أو ولاية..!
* أصبح الخذلان هو القاعدة والعمل والإيفاء هو المفاجأة والاستثناء..!
* حزب المؤتمر الوطني الحاكم لم يعد أحسن حالاً ممن يمثلونه في السلطة التنفيذية.. (الشجرة) التي كانت جسراً يعبر من خلاله كل من اختارها رمزا،ً سكن مفاصلها اليباس؛ وبدأ نجم أسمائها اللامعة في الافول، وتحالفت أوراقها مع الجفاف وغشاها الذبول!
* نسي الناس مفردة (المسيرات) التي كان لا يمضي أسبوع إلا ووجدناها غطت شاشات التلفزيونات واعترضت مواكبها اللاهثين خلف (لقمة العيش) في الطرقات.. الحشود التي كان يتم جمعها للقاءات الجماهيرية والخطابات الحماسية باتت لا تجلس لسماع الوعود أمام شاشة التلفزيون ناهيك عن وقوفها في الميادين والساحات لساعات طوال في البرد القارس الذي لا يقبل القسمة على التدافع والزحمة، وفي الصيف الحارق الذي يلفح صهده الوجوه ويلسعها بلا رحمة..!
* انتهى زمن الحشود المستنفرة من المكاتب والبيوت؛ وولى عهد المسيرات المصنوعة، ولم يعد للناس زمن يهدرونه في لمة يحدثهم فيها المسؤولون عن الاستهداف العالمي وانخفاض سعر الدولار؛ وتوافر الخدمات الصحية والتعليمية؛ والسماء التي ستمطر قمحاً رغم الحصار الأمريكي وغيرها من (بركات الإنقاذ)، فأبناء بلادي المسحوقون لو تكرمت عليهم ضغوط الحياة بفائض زمني فمن الأولى أن يقضوه بحثاً عن العمل في (نقاطة) تساعدهم في سد رمقهم وتوفير (لقمة عيشهم)..!
* هذا الواقع المأساوي لا ينتج وزيراً (مرضياً عنه)؛ أو (والياً نجماً) يحبه الناس بعيداً عن حسبة الأجندة الخاصة ولغة المصالح والموازنات القبلية.. من الصعب حالياً أن يهتف المواطنون باسم مسؤول فالطاقة باتت محدودة ومن الصعب التفريط فيها وتبديدها في الهتاف..!
* تلك كانت الخواطر التي دارت بذهني في ديسمبر من العام الماضي عند حضورنا تدشين النسخة الأولى لمهرجان الجزيرة للسياحة والتسوق، فقد كان بالنسبة لي هتاف (حشد غير مستجلب وجموع غير مستنفرة) أمراً قد فارقته الإنقاذ منذ سنوات لأن معظم الجالسين على الكراسي يضعون المواطن في آخر اهتماماتهم..!
* قضية الساعة هذه الأيام تتعلق بتقديم نائب رئيس المؤتمر الوطني بولاية الخرطوم محمد حاتم سليمان للمحاكمة بتهم تتعلق بالفساد؛ وذات ارتباط مباشر بمخالفة قانون الإجراءات المالية والمحاسبية وقانون الشراء والتعاقد والتخلص من الفائض، وأكثر ما لفت نظري فيها أن المدافعين عن محمد حاتم بصفته من (عباقرة رجال الحزب الحاكم) أنهم يحدثونك عن قدرته في جمع الناس والحشود في بعض المناسبات الأخيرة؛ وكأنما الأمر لم يصبح إيمانا من المحتشدين بما خرجوا له؛ أو قناعة من المنتمين للحزب بضرورة إظهار المساندة؛ وبات الأمر وكأنه (امتحان تجميع صعب) ينجح فيه (العباقرة)؛ بينما من يضع آماله على التفاعل الشعبي والسند الحزبي فإنه حتماً لن يجد أحداً في مكان التجمع وسيكون من أهل الرهانات الخاسرة..!
* هؤلاء الذين يدافعون عن محمد حاتم بوصفه أضحى (رجل الحشود الأول) يغرسون نصل سكين حاد في خاصرة حزبهم الذي بدأ في التآكل والذوبان وقريباً جداً سيصبح ذكرى ويدخل (كهوف النسيان)..!
* النبوغ ليس في (جلب الحشود) كما يفعل محمد حاتم المقدم للمحاكمة الآن، وعبقرية المسؤولين تتجلى في تحسين أوضاع الناس وخدمتهم والعمل على تغيير واقعهم؛ وتلك نراها جلية مثلاً عند رجل كمحمد طاهر أيلا والي ولاية الجزيرة فقد أصبح اسمه نغمة عذبة ترددها الشفاه بكامل الرضا وكأنه لاعب كرة قدم يحرز أهدافاً صعبة من زوايا ضيقة؛ أو فنان جماهيري تتقاطر الأفواج لتردد أغنياته بكل الحب والإعجاب والاهتمام في مسرح العمل العام..!
* ليس بين أهل ولاية الجزيرة – المعروفين بعدم تهافتهم على مسؤول أو ركضهم خلف نافذ – ومحمد طاهر أيلا، ثمة علاقة غير سيرته التي سبقته إليهم وإنجازاته بولاية البحر الأحمر التي كانت وفد مقدمة قبل مجيئه فخرج الناس بعفوية – لا تعرف الحشد التعبوي والاستنفار الحزبي – لاستقباله واعتبروه هدية السماء للولاية المظلومة المكلومة، وكان أيلا كالعهد به وهو يرد تحية حفاوة الترحاب بأحسن منها عبر انخراطه السريع في العمل على تنمية الولاية لذا لم يكن هتاف المواطنين المتكرر باسمه أمراً مستغرباً..!
* من يجمع الحشود يا سادتي لحدث ما ليس رجلاً ناجحاً طالما أنه يستنفر الناس لتجميل واقع ماسأوي، ولكن النجاح حقاً أن يهتف لك الجميع (دون مسيرة)؛ وأن يترنم الكل بإنجازاتك دون خطب حماسية؛ فالمقياس في العمل والعطاء؛ و(رفعت الآن جلسة الترافع) بجمع الناس واستنفارهم فأمام محمد حاتم تهم خطيرة ولتصمت (الحشود) فالكلمة أضحت عند القضاء..!
نفس أخير
* حشد الناس لا يمكن أن يكون مرافعة، والحديث عن استنفار الجموع ابتعاد عن القضية الأساسية و(هروب من الموضوع)..
ينصر قلمك يا مبدع
قرأت مقالك بكل الحب والود والفرح فأنت صوت الشارع ونبضه
أقف إجلالاً لقلمك حبيبنا هيثم كابو