الحنين.. الندى الذي تبتل منه أرواحنا.. فتمنع تصحرها وتستغيث به أفراحنا.. طمعا في صحبته.. وخذلانا للياس الذي يحاصرنا في لحظات الانتظار.
شعور ممتع وجميل.. شعور خفي يباغتنا دون تخطيط مسبق.
يعود بنا إلى أماكن لم تكن ذات أهمية حين عشناها وأصبحت فردوسا مفقودا حيث باعدت السنون بيننا وبينها.. ولا توجد استثناءات بالحنين كأن تحن إلى شيء دون شيء..
الحنين.
هو ذلك البركان الطافح في الصدر في لحظة أنجبته ومضت تاركة لنا تبعات ذلك الشعور.
فأنا حين أحن..
أتذمر من حنيني العطشان حتى اللهفة.. ونوافذ قلبي مفتوحة.. فأتناثر على أرض مبتلة بالدموع.. وظل صمتك يوجعني حتى العروق.. وإن كان قلبي، كما عهدته، مفروشا بالبياض.
أحن..
وذات قلبي يفرد جناحيه.. يطير إليك فاقد العناوين والأمكنة.. البحيرات الضاحكة غابت عن خارطتي.. واليابسة يابسة حتى من شفق غيمة.
أحن…
وأنت هنا مسطور على جدار القلب الذي لا يهدم..
عيناي معلقتان فوق سحابة تراقبك خيالا خلف الحدقات يتراءى.. وصدري الذي يضمك وردا قد ذبل..
بعد كل ذلك.. أتدري أن هزيمتي غيابك.. وانتصاري وجودك إلى جانبي؟.. فالوقت عذاب والمسافة تؤلمني دقائقها.. أفقد دفء عطرك.. وفي عمق عروقي حزن سببه أسوار تلك العزلة.
أحن…
حين أطالع نهاري لأراك.. وتصرخ روحي: “وينك؟”..
فصمتي لا يكذب وعيني لا تكذب.. عودتني على فنجان من روحك أرتشف فيه طعم محبتك.
أحن..
حين أحس بأن وجهي معلق بين الناس.. أبحث عنك في المدن.. الشوارع.. والممرات..
أو تعلم.. أني قررت أن أحب وأتنفس ترابك في منافي روحي الاضطرارية..
أحن..
حين أحس بالأنوار تنخفض وتبكي.. وكل الأشياء مرتبكة.. تسترخي عيناي من التعب.. وأنا وحيدة.. غصن قطعت عنه سبل الحياة.. فيحاول ألا يموت من أجل نظرة لعينيك..
يا لشقائي حين يرقص النداء في صدري! فهل تسمعه؟
ضاقت الأمكنة بي وبكى قمر ليلي وبات يهرب من عيوننا.
وكذلك الشمس هي الأخرى حزينة تبحث عنك بداخلي.. والأسئلة تشعلني بالاحتراق.
أحن..
حين أتمناك مصدرا لحياتي.. وبالدعوات أتمنى وعدك لي بأن يجعل الله لنا الخير.. فإحساسنا رائع.. ولكنها عاطفة متأخرة.. عاطفة جاءت لتوقظ الميت فينا.. لتمنحنا فرصة الشعور بالحياة.. لتذكرنا بالقلب والنبض والسهر والشوق.. لتقيس لنا مساحة المتبقي منها.. لندرك أننا يوما كنا بحاجة إلى الاعتراض أحيانا وبقوة.. ونحتاج إلى التمرد وإلى رفض أشياء قبلناها معظم العمر. نحتاج إلى تبديل أسطوانة حرصنا كل العمر على الاستماع لها وترديدها كأغنية قديمة من التراث.
بالحنين فقط.. قد جئتني.. بالهدوء الذي يخيم على أحلامنا وأحزاننا..
لكننا نحتاج لكي نصل إلى الكثير من التمرد والكثير من الرفض.. ونحتاج إلى استئصال عقلينا.
نحتاج إلى فقدان الذاكرة في فترة محسوبة..
نحتاج إلى استبدال القوم والزمان والمكان.. ونحتاج جدا إلى نسف الكثير وتدمير الكثير.. وبناء الأجمل والأصلح والأبقى في قلبينا..
وإن كنا قد تأخرنا كثيرا.. تأخرنا في تجاهل الوقت والعمر والعقل والظروف..
تأخرنا في إدراك أنها مراهقة متأخرة..
ثورة لبركان تعترض طريقنا ونحن في اتجاه مرحلة ما من العمر..
* ومضة حنين *
أحن.. وأنا بكامل قواي العاطفية..
إلى خطوات حبيبه على طريق ترابي يمر ببابي.