( أعدتُ نشر هذا المقال والمقال الذي سبقه بمناسبة تجدُّد العنف والقتال في دولة جنوب السودان الوليدة, وكنتُ قد نشرتُ المقالين قبل أربعة عشر عاماً. كان الحزب الذي أنتمي إليه – الحزب الإتحادي الديموقراطي في ذلك الوقت هو الحليف الأكبر للحركة الشعبية, وقد أثار تناولي لهذا الموضوع غضب قيادة الحزب حينها ووصلتني رسالة بطريقة غير مباشرة من رئيسه تقول : “قولوا ليهو الوقت ما مناسب لنشر الكلام ده” ).
على سبيل التوطئة:
هـــذا المقال الثانــى في نقد خطاب السودان الجديد يتناول بالتحليل المقارن مانيفستو الحركة الشعبية لتحرير الســـــــودان الصادر فى عام 1983م, ويلخص هذا المانيفستو (البيان) رؤية الحركة الشعبية وتعريفها لمشكلة السودان وكيفية الخروج من مأزق الحرب وقضية التنمية وشكل الحكم الذى يؤمِّنُ إستقرار البلاد ويكفل الفرص المتساوية لمختلف أبناء السودان بمختلف إنتماءاتهم الثقافية والعرقية والدينية. لقد حدثت تحولات تكاد تكون جذرية فـــى توجهات الحركة التى أبرزها المانيفستو قبل عشرين عاماُ وذلك فى المنظور والرؤية لتعريف المشكلة الوطنية وفى كيفية الخروج من الأزمة التى أعاقت تطور البلاد وتنميتها, هــذا التحول فى الرؤية شمل نواح إستراتيجية فى المنظور السياسى والاقتصادى للحركة تأثر بتحولات داخلية واقليمية وأخرى دولية أدت فى محصلتها النهائية الى توقيع أتفاقية السلام الأخير بكينيا بين حكومة السودان والحركة الشعبية لتحرير السودان.
مانيفستو الحركة الشعبية :
كُتب المانيفستو (البيان) فى أحد عشر فصلاُ شملت الجذور التاريخية لمشكلة السودان وجذور حركات التحرير فى المناطق المتخلفة, وأفــرد البيان فصلاً كاملاً للحديث عن حركة الأنيانيا وإتفاق سلام أديس أبابا بين حكومة جعفر نميرى والأنيانيا ثم الإخلال بالإتفاق من قبل النظام المايوى, وتم كذلك بيان تكوين وأهداف الحركة الشعبية والجيش الشعبى لتحرير السودان وإستراتيجية تحويل الحركة من حركة جنوبية الى حركة تحرير أصيلة لكل السودان وفى الفصلين الأخيرين تمت الإشارة للأعداء والأصدقاء الحقيقيين والخفيين للحركة الشعبية.
الجـــذور التاريخية لمشكلة الســــــــودان :
يعتمــد المانيفستو التحليل المادى والمراحل الإقتصادية التى تتبناها وتقول بها النظرية الماركسية فى تعريف مشكلة السودان اذ يعذو جذور المشكلة للإستعمار(الرأسمالية) وخططه فى إستغلال البلاد الواقعه تحت سيطرته , وفى هذا يقول البيان : (1)
( وفـــى الواقع فإنَّ جذور المشكلة تكمن فى إنتشار الرأسمالية والنظم الإستعمارية فى أواخر القرن الماضى حين كانت أفريقيا تتقسمها قوى إستعمارية أوروبية تعتمد سياسة “فرق تســـــد” داخل وما بين المستعمرات. وقد كان تعميق الفوارق القومية والثقافية والدينية والإجتماعية والإقتصادية بين الشمال والجنوب فى السودان أبان فترة الاستعمار جزءاً من خطة مرسومة ).
ذلك كان رأى الحركة فى جذور المشكلة عندما كان هواها شرقياً وكانت تتنسم عبير الروائح الهابة عليها من تلقاء أثيوبيا منقستو , أما وقد تبدلت الأحوال وإتجهت الحركة غرباُ للقطب الإمبريالى الأكبر (أمريكا) فقد تم تعريف مشكلة السودان من قبل الدكتور قرنق على النحو التالى : (2)
( إنَّ مشكلة السودان مشكلة مركبة إذ إستمرت حرب الأنيانيا حوالى 17 عاماً والآن تتجاوز الحرب الراهنة 19 عاماً ومازالت مستمرة. ولعل السؤال لماذا يرهن السودان أجياله لمعاناة الحرب طيلة هذه الفترة والإجابه عندى أن الحكومات المتعاقبة على سدة الحكم عملت على تكريس حكومات عربية إسلامية متجاهلة حقوق وتطلعات بقية الأعراق الأخرى مما أدى إلى إشتعال الحرب وإطالة أمدها مما يؤكد أنَّ طريق القوة المُتبَّع لفرض دولة إسلامية فى السودان لن ينجح ).
إنَّ قرنق (الماركسى) فى المانيفستو والذى عرَّف االمشكلة بأنها نتاج طبيعى لظاهرة الإستعمار التى وضعت الشمال فى كفة وبقية القطر فى كفة أخرى فى إطار التنمية غير المتوازنة يؤكد فى واشنطون أنَّ الحكومات العربية الإسلامية هى أس المشكل, هكذا جميعها دون تفريق بين حكومة ديمقراطية او أخرى عسكرية أو بين واحدةٍ مدنية أو ثانية أصولية إسلامية, وفى هذا يقول : (3)
(سأبدأ بالنموذج الثالث وهو ما يُسمى بالدولة العربية الإسلامية وهو النموذج الراهن المُطبَّق الآن فى السودان, وفى هذا النموذج فإنَّ جنوب السودان يشكل نسبة ضئيلة ضمن دائرة هذه الدولة وقد تم توقيع إتفاق أديس أبابا عام 1972م وفقاً لهذا النموذج وقد فشلت لأنها لم تحقق تطلعات الجنوبيين. وهو كذلك ذات النموذج الذى إستوعب إتفاقية 1997م مع الفصائل الجنوبية الأخرى بقيادة مشار وقد إعترض الجنوبيون على هذا النموذج وأرادوا فى المقابل الوصول إلى إنشاء دولة مستقلة فى جنوب السودان. وكل الحكومات التى تعاقبت على حكم السودان منذ الإستقلال عملت على تكريس هذا النموذج خاصة حكومة الفريق عبود التى عملت على تكريس هذا النموذج بفرض الأسلمة والتعريب على مواطنى جنوب السودان )..
لقد رأى المانيفستو فى إتفاق أديس أبابا ـ بعكس رؤية قرنق الحالية ـ صفقة بين الصفوة البورجوازية البيروقراطية الشمالية والجنوبية حيث أملت الصفوة الشمالية الشروط بينما ساومت الصفوة الجنوبية على مصالح الجماهير من أجل الوظائف التى حرموا منها طويلاً . (4) وذلك حديث يتسق مع التحليل الماركسي الذى تبناه البيان.
إنَّ فشل إتفاقية أديس ابابا لم يقع لأنه تم ضمن دائرة (الدولة العربية الاسلامية) كما يرى قرنق الآن ولكنه فشل لأنَّ “الفرد” الطاغية الذى وقعَّهُ أراد له الفشل, فقد كان من ضمن الدولة العربية الإسلامية تلك الدكتور منصور خالد أحد مهندسى الإتفاق بينما وقف كل الشمال بأحزابه وقواه المدنية خارج دائرة الدولة العربية الاسلامية التى مثلها النميرى وأبيل ألير وجوزيف لاقو وجون قرنق نفسه و هو ذات الشيء الذى حدث فى اتفاق الخرطوم بين الحكومة والدكتور مشار عام 1997م حيث وقف كل الشمال بأحزابه ونقاباته وتنظيماته المدنية ضد الإتفاق الذى تم ضمن دائرة الدولة العربية الإسلامية التى إتسعت لتضم مشار ولام أكول عندما ضاقت عليهم الحركة الشعبية (الدينكاوية) وذلك بابٌ فى النقاش يطول وقد أفردنا له مقالاً منفصلاً.
حـــرب تنمية أم حــرب هويات :
إنَّ تحولاً كبيراً قد حدث فى مفهوم الحركة الشعبية لمشكلة السودان مابين طرح المانيفستو فى العام 1983م وبرنامج الخمسة عشر نقطة الذى تبنته الحركة مؤخراً, فالمشكلة بحسب طرح البيان ليست مشكلة جنوب السودان ولكنها مشكلة السودان عموماً. إنها مشكلة المناطق المتخلفة فى كل أنحاء القطر . ولفظ الشمال نفسه فى المانيفستو عنى المناطق فى شمال السودان التى أصبحت فيها التنمية الهامشية ضرورية حتى يتسنى إستخراج الفائض بأقل تكلفة بواسطة الأنظمة الإستعمارية. وبهذا فإنَّ مفهوم الشمال يضم مديرية الخرطوم ومديرية النيل الأزرق القديمة ولا يضم أياً من المناطق الأخرى فى شمال السودان, فمديريات دارفـــور وكردفـــان وكســـلا والشـــمالية القديمة هى مناطق متخلفة تستوي فى ذلك مع المديريات الجنوبية الإستوائية وبحر الغزال وأعالى النيل.(5).
إذاً المشكلة بحسب المانيفستو هى مشكلة تنمية فى الشمال والجنوب تمتد جذورها الى مرحلة التنمية الهامشية غير المتوازنة فى عهد الاستعمار وممارسات أنظمة “الشلل المعادية للتحرر والمرتبطة بالرجعية العالمية”.
ذلك ما كان فى عام 1983م, أما رؤية الحركة اليوم فقد تبدلت لتصبح المشكلة فى الأساس مشكلة عرقية:
( هذه هى المشكلة الأساسية للسودان . إنها قناعتنا فى الحركة الشعبية أن كل الحكومات التى جاءت وذهبت فى الخرطوم فشلت بمفردها فى إنشاء سودان ينتمى بالتساوي لكل مواطنيه. منذ 1956م وحتى اليوم تميَّز (السودان القديم) بالتمييز العرقى والتعصب الدينى كأبعاد أساسية تحكم السياسات الوطنية , الفرص الاقتصادية, التفاعل الإجتماعى , إنه عينهُ هذا الوضع الظالم وهو الذى قاد لحربين مريرتين ).(6)
وبهذا فإنَّ الحركة باتت ترى أنَّ التناقض العرقى الذى ترتبت عليه الإمتيازات الإقتصادية والظلم الذى وقع على الأعراق الأخرى هو سبب المشكلة وهو الأمر الذى يناقض رؤية المانيفستو التى إنبنت على مفهوم التنمية الهامشية الذى لم يستثن الشمال بكل مديرياته عدا الخرطوم والنيل الأزرق ويقطع برنامج الخمسة عشر نقطة شوطاً أبعد من ذلك فى تثبيت التمييز العرقى حيث يقرر :
(إنَّ التمييز الدينى والعرقى وماصاحبه من إفتقار للسلطة السياسية لدى الجنوبيين, النوبة ، الفور ، البجة ، الفنج ، المساليت ، الزغاوة ، المسيرية ، الرزيقات ، والقوميات المهمشة الأخرى يتجلى فى الحياة الإقتصادية اليومية وفى غياب المساواة الإجتماعية والتوزيع غير العادل للثروة الوطنية والتنمية ).(7)
هذه رؤية مفارقة تماماً لرؤية المانيفستو وتحتوى بين طياتها تناقضاً أساسياً سنعمل على كشفه. أما مفارقتها للمانيفستو فتتجلى فى حصرها للأقوام المهمشة على قبائل الجنوب والشرق والغرب مما يعنى أن إمتياز السلطة السياسية قد أدى للتفوق الإجتماعى وتركيز السلطة والثروة والتنمية لدى الجعليين والدناقلة والشايقية والرباطاب والمحس والحلفاويين والمناصير وغيرهم من قبائل الوسط والشمال وهذه فرية ينفيها ماورد فى المانيفستو من أنَّ حجم الإستغلال الإستعمارى واتساع الفجوة فى التنمية كان أكثر فى المناطق المتخلفة فى الشمال منه فى الجنوب, وكذلك ينفيها واقع الحال فى قرى ومدن شمال السودان بدءاً من شمال الخرطوم وحتى حلفا القديمة . أما التناقض الأساسى فى هذا الطرح فهو يتمثل في تحويل سؤال التنمية (كما فى البيان) الى سؤال العرق واستبطان دعوة خفية للإنقلاب على هذه القبائل صاحبة الإمتياز والتى تُجسِّد (السودان القديم) كخطوة أولى تتبعها خطوة أخرى لإستبعاد القبائل العربية التى تمت مهادنتها مرحلياً مثل المسيرية والرزيقات وقبائل العرب فى غرب السودان الكبير (دارفور وكردفان) .
إنَّ الهدف النهائي الذي تنشدهُ الرؤية الأخيرة للحركة الشعبية يتمثل في تمكين السودانيين الأفارقة من السلطة ( فدولة ما بعد 1956م هى دولة مفبركة مؤسسة على نظام سياسى وأطر مؤسسية شوفينية عرقياً ودينياً. لقد أٌبعد السودانيين الأفارقة من مركز السلطة والثروة منذ 1956م ). (8)
وهكذا ترتد الحركة التى ولدت عام 1983م برؤية شاملة لمشكلة السودان وتحليل صحيح لأثر الإقتصاد السياسى الكولونيالى على تكوين الدولة السودانية وما أصابها من تشوهات الى حركة تضرب على أوتار التناقضات العرقية هدفها إنشاء السودان الجديد (وهو يعنى إنتهاء النموذج العربى الإسلامى المتحكم وإعادة بناء السودان الجديد عن طريق الإحلال والإبدال بين النموذجين).
وما رؤية الحركة الشعبية “المسكوت عنها” إلاَّ إحلال الأقوام الأفريقية محل العرب الذين ظلوا يسيطرون على مُقدَّرات البلاد ويستأثرون بثرواتها منذُ الإستقلال.
حلفاء قـــرنق بين المانيفستو وبرنامج الخمسة عشر نقطة :
حدَّد المانيفستو الأعداء والأصدقاء الحقيقيين والمحتملين للحركة الشعبية. أما أعداؤها بحسب المانيفستو فهم :-
1ـ الصفوة البورجوازية البيروقراطية الشمالية
2ـ الصفوة البورجوازية البيروقراطية الجنوبية.
3ـ التطرف الدينى
4ـ قادة أنيانيا (2) الرجعيون.
5ـ الدول الأفريقية والعربية الرجعية.
6ـ الإمبريالية.
وقد تم تصنيف الأصدقاء والحلفاء على النحو التالى :
ـ العمال والمزارعون وتنظيماتهم الجماهيرية
ـ الطلاب والمثقفون
ـ العناصر التقدمية داخل القوات النظامية
ـ الأقطار الإشتراكية والتقدمية فى أفريقيا وأوروبا وآسيا واميركا اللاتينية.
وتبدو مفردات التحليل الماركسى ظاهرة : بورجوازى , رجعى , تقدمى , إمبريالى ، إشتراكى ، ولكن ماعاد حلفاء الحركة أو أعداءها هم أولئك الذين حدَّدهم المانيفستو فقد تبدلت الأحوال ومرَّت مياه كثيرة تحت الجسر بإنهيار الاتحاد السوفيتى والمنظومة الإشتراكية فالمانيفستو الذى تمت صياغته على نهج النظرية الماركسية وبتأثير نظام الدرك فى أثيوبيا لم يعد صالحاً لعالم اليوم الذى تحولت فيه أميركا التى كانت تمثل الإمبريالية فى قمة تجلياتها حسب رؤية الحركة إلى الصديق الأول والحليف لقرنق فمنها يأتى التمويل والمؤازرة السياسية وعبر أجهزة إعلامها كبيرة التاثير يتسرب خطاب السودان الجديد الذى يُعزى كل مصائب السودان إلى شيطان يُجسِّده العرب والمسلمين الذين يستثيرون عقدة تاريخية لدى المواطن الأمريكى بإحياء ماضي “الرق” وحروب التطهير ضد الأفارقة المسيحيين. هذا لعبٌ على الذقون وإستخفافٌ لا يليق بحركة تطرح نفسها بديلاً يطمح لحكم كل السودان. وعلى صعيد الداخل أصبح حلفاء الحركة الحقيقيون هم السودانيون الأفارقة الذين أبعدوا من مركز السلطة والثروة, أصبح حلفاؤها هم المرحوم يوسف كوة وجبال النوبة , و مالك عقار وجنوب النيل الازرق , وها هى كذلك تمد حبال الوصل للفور والزغاوة ولم لا فقد قال قرنق:
( أما القسط الثانى من التباين الإثنى أسميه التنوع المعاصر فالسودان كما هو معلوم فيه مايقارب ال 500 قبيلة تتحدث 130 لغة وهذه القبائل تنقسم إلى قسمين كبيرين, القبائل الأفريقية السودانية وتشكل 69 ـ 70% من جملة السكان وفقا للتعداد السكانى للعام 1955م وأما المجموعات العربية فتبلغ نسبة 30% فقط حسب اللغات والألسنة العربية أما العرب عرقاً ودماً فلا يتجاوزون15% فقط ).
إذاً حلفاء الحركة الجدد هم هؤلاء ال 70% من الأفارقة وليسوا الطلاب والعمال والمزارعين والقوى الجديدة فى السودان, فبينما خاطب المانيفستو المزارعين فى قرى المسعودية والطالباب وأربجى بالجزيرة ودلتا طوكر بالشرق والعمال فى الداخلة بعطبرة ورعاة الإبل فى سودرى والحرفيين فى بحرى وأم درمان والطلاب فى جامعة جوبا, فإنَّ برنامج الحركة الأخير يخاطب الدينكا والشلك والزغاوة والبجة والفور وهذا هو كعب أخيل الذى سيُنسفُ منه برنامج السودان الجديد, فهم يزعمون أنه :
( تحت مظلة نموذج وحكم السودان القديم كان من المُحتَّم أن يغوص السودان فى مستنقع عدم الإستقرار السياسى, الحروب ، الإنهيار الاقتصادى والبؤس ـ بحق لا يمكن أن يؤسس مجتمع سعيد ومزدهر على التمييز العرقى, الأصولية الدينية , الطائفية , القبلية ، الرق ، العنصرية أو الدكتاتورية (ديكتاتورية البروليتاريا, الجنرالات أو الملل).(11).
فإذا كانت هذه هى أدواء “السودان القديم” فإنَّ الحركة الشعبية تبني تحالفها على أسوأ ما فى هذا السودان القديم وهو التحالف العرقى المُتكئ على قاعدة قبلية تحركها آيدولوجيا لا يُوحِّد بين أصحابها شىء سوى بغض الشماليين ودوننا مسيرة الحركة المليئة بالصراعات والتصفيات الجسدية والإبادة الجماعية. إنَّ هذا السودان القديم الذى يدعو قرنق لازاحته وإحلال سودانه الجديد مكانه يمتلك بنية إقتصادية وإجتماعية وسياسية ومؤسسات مدنية وعمق حضارى لايوجد فى الجنوب وهو بكل مشاكله التى يعانى منها مُهيأ للتغيير بوتيرة أسرع من الجنوب الذى لا توجد حتى الآن لغة مشتركة تجمع بين مختلف قبائله والذى مازال يعيش فى مرحلة الإقتصاد المعيشى الطبيعى وما زالت عقلية إنسانه تؤسس على السحر والشعوذة وإستحضار أرواح الأسلاف. خلاصة القول أن الحركة الشعبية إذا أرادت أن تبنى سوداناً جديدأُ يتجاوز مشاكل السودان الحالى فلا سبيل لها إلا التحالف مع الفئات التى حدَّدها المانيفستو قبل عشرين عاماً أما الإصرار على تدمير “السودان القديم” دون إعداد القوى التى ستبنى السودان الجديد فهو حرثٌ فى البحر وسراب لايروى الظمآن.
نظام الحكم بين المانيفستو وبرنامج الخمسة عشر نقطة :
جاء فى الفصل السابع من المانيفستو وتحت عنوان تكوين وأهداف الحركة / الجيش الشعبى لتحرير السودان :-
( قامــت عناصر عسكرية وسياسية فى المجموعات المشار اليها فى الفقرات 15 و 18 بتأسيس حركة تحرير شعب السودان والجيش الشعبى لتحرير السودان , ورغم أن الحركة أملتها الضرورة فى الجنوب الا أنها تستهدف فى المحصلة النهائية تحويل كل القطر إشتراكياً. إنَّ الجيش الشعبى لتحرير السودان يقاتل لتأسيس سودان إشتراكى موحد وليس جنوب السودان منفصلاً ).
ذلك كان زمان الآمال العراض بسطوع شمس الإشتراكية وأفول نجم الرأسمالية, تلك أيام مضت (ويا زمن هل من عودة هل ؟) , وقد رأينا كيف أدان برنامج الحركة الأخير دكتاتورية البروليتاريا وحكم الطبقة , والناظر فى المانيفستو لا يكاد يلمح أى إشارة لكلمة ديمقراطية أو أحزاب أو إنتخابات وذلك يتسق مع المنهج الذى كانت تتبناه الحركة فى ذلك الوقت. أما اليوم وقد تبدلت الأحوال وصار أعداء الأمس هم أصدقاء اليوم فكان لابد أن يكون محور عملية التنمية الإقتصادية للسودان الجديد هو الفرد فى منظومة إقتصاد السوق الحر (10) أو المختلط (على حياء) , ويمتلئ البرنامج الأخير بمفردات مثل الدستور والحريات والمحاسبة والشفافية، وذلك أمرٌ محمودٌ وجيِّد مادام على الورق أما المرغوب فيه فهو إنزال هذه المفاهيم لأرض الواقع والممارسة, ذلك ماتشهد بعكسه كل الشواهد فى ممارسة الحركة الشعبية وتكفى القارى نظرة سريعة لكتاب الدكتور لام أكول الأخير الصادر عن دار جامعة الخرطوم للنشر وكذلك كتاب جون قاى نوت ـ ” جنوب السودان آفاق وتحديات” ليعرف نوع الديمقراطية التى تمارسها الحركة وليتهيأ لنوع الحكم الذى ستشارك فيه فى شمال السودان وستنفرد فيه بحكم الجنوب . وقد درج بعض الأخوان فى الحركة الشعبية على تذكيرى فى العديد من الندوات التى تناولت فيها موضوع السودان الجديد بأنهم مازالوا حركة ثورية ترفع السلاح ولا يجوز أن نحاكمهم بمعايير الأحزاب المدنية وكان ردِّى على الدوام أنه يتوجب عليهم دراسة تجارب الحركات الثورية المشابهة فى العالم بدءاً بتجربة فيدل كاسترو وانتهاءاً بتجربة أريتريا ليعلموا أنَّ من الصعب تغيير المنهج الذى ظل متبعاً لعشرات السنين, وكيف يتحول الثورى الى متسلط يقصي ويسجن ويقتل رفقاء نضاله دعك من أبناء شعبه. إنَّ ثقافة الديمقراطية تحتاج لفترة زمنية طويلة حتى تتجذر فهى خبرة وتراكم وتربية وليست قفزة فى الهواء, إنها عملية طويلة وشاقة خصوصاً عندما يُراد غرسها فى حركة عمودها الفقرى هو القبيلة وتحالفاتها الأساسية هى تحالفات عرقية.
وأشير فى ختام هذا المقال إلى مُفارقةٍ لا تخلو من عبرة : قد قُتل كاتب مانيفستو الحركة الشعبية “مارتن ماجير قاى” داخل سجن الحركة وبأيدي قواتها فى العام 1993م.
هـــــوامش
1ـ مانيفستو الحركة الشعبية . الفصل الأول . الجذور التاريخية لمشكلة السودان.
2ـ محاضرة الدكتور جون قرنق بواشنطون عام 2001م.
3ـ نفس المصدر
4ـ مانيفستو الحركة الشعبية . الفصل الرابع . إتفاقية أديس أبابا.
5ـ مانيفستو الحركة الشعبية لمشكلة السودان . برنامج الخمسة عشر نقطة
6ـ رؤية الحركة الشعبية لمشكلة السودان . برنامج الحمسة عشر نقطة
7ـ برنامج الخمسة عشر نقطة
8ـ نفس المصدر
9ـ محاضرة الدكتور جون قرنق بواشنطون عام 2001م
10ـ نفس المصدر
11ـ رؤية الحركة الشعبية لمشكلة السودان . برنامج الخمسة عشر نقطة
sudantribune