دودة الصحافة
على حافة الهامش المُتاح نرمي بحيلنا وأحابيلنا الكتابية، ونتصور أننا لا نكتب شيئًا إذ نُنقب ونُحجِّب مقالاتنا بنصيف كنصيف المتجردة محبوبة النابغة الذبياني: “سقط النصيف ولم تُردْ إسقاطه/ فتناولته واتقتنا باليد)، والنصيف بالمناسبة هو نِصْفُ الشيء ما بين البداية والنهاية، ونصيف المتجردة هو نقابها الذي يغطي نصف وجهها (أسفله) فيما العينان مكشوفتان، وعكسه نصيف الكتابة في الصحف الماثلة، يغطي عينيك ويكشف عن فمك. لذلك حين يسقط لن تقوى (المتجردة) على (تناوله)، كما لن تستطيع اتقاءنا بيديها المرتعشتين.
والكتابة الشيِّقة والباذخة هي تلك التي تتوفر على أقدارٍ كبيرةٍ من الحيِّل والأحابيل والالتفافات الذكيِّة على صرامة الرقيب الخارجي والداخلي، وكثيرون يعلمون.
قصاصو أثر الحكايات الصغيرة، هم نحن، لا غيرنا، نحن من نعرف أحجام نعل هذا الكاتب أو ذاك، حتى أصابع أقدام الكتاب الكبار أحصيناها في هذه الصحف، ونقرأ لحسين حلمي شاكر قصته (نَوادِر): “الفقير الذي لم يجدْ ما يأكُله؛ نَظَرَ صوب مكتبته، تناول كتابًا وبدأ يبحث عن وليمة، خرجتْ له أنوف البُخلاء”. ونضحك من حبكة (شاكر) المُتقنة ثم نتحسس رؤوس أنوفنا التي ما نزلنا منها ونُحكّها بمتعة بالغة.
أنوف البخلاء شديدة الحساسية كأنوفنا، لكنها ليست شامخة مثلها، لذلك حين يتناول الفقراء (كتبًا) وهم يتصورون أن القراءة ستسكت جوع (بطونهم)، فتخرج لهم من بين الأسفار (أنوف البخلاء)، حتى الكتب تحاربهم/ حتى الكتابة تحاربنا، ونحن من نكتب للعالمين.
بطبيعة الحال، ومن رؤوس أنوفنا نحكي أن العناوين الكبيرة كلها (بهتان)، ومن يرد الحقيقة فعليه بالتفاصيل حيث يكمن (الشيطان) موشحًا بها كاملة، وموشحًا تلك تغري حاسة شمي نحو قوارير عطر الموشحات الأندلسية “لكل شيء إذا ما تم نقصان فلا يغر بطيب العيش إنسان/ هي الأمور كما شاهدتها دولٌ من سرّه زمن ساءته أزمان).
ولأن (زمن الصحافة) الراهن لا يَسُرْ، نكتُب عنه حلقاتٍ مُتقطعة بحسب مزاجنا، حلقات تحتشد بين تضاعيفها كل شياطين الحقيقة إلا واحدًا (حريفًا) يظل مختبئًا بين السطور، كامنًا هناك يظن أنه في حرزٍ أمين، ولا يدري أننا نرصده كصائدي الساحرات.
والحال أننا هنا أهرّج فقط، لكنني أتوخي الحكمة في (تهريجي) هذا، فالصياد الماهر يوهم فريسته بأنه غير مهتم بها، يتركها تطمئن إليه وتقترب منه وتتمسح بقدميه ثم ينقض، وهكذا نفعل نحن الكاتبين في زمن الصحافة الماثل مع اللغة والرقابة، وهذه الحيِّل الماكرة تجعلنا نظفر بصيد وفير.
وليس من صيد (جامد) مثل (الدودة) وهي قصة قصيرة جدًا لـ(خابيير توميو):
– وأنت؟ من تكون؟
– أسأل المخلوق الصغير الذي أكتشفه أمام قدمي. فيجيبني: أنا الدودة. حيوان صغير، أحمق وبطيئ. أتنفس عبر مسام جلدي وتمتد قناتي الهضمية من طرف جسمي إلى طرفه الآخر. وقد قالت لي أمي بعد زمن قصير من ولادتي. لا تهتم يا (فريديريكو). أنت لست ذكيا ولا جميلا ولا تمتلك أجنحة. كما أنه ليست لديك حتى سيقان، ولكن بزحفك، تستطيع أن تصل إلى أي مكان تريد.