واقع الحال أن الأمور كلها دونما استثناء تمضي في هذه البلاد نحو الهاوية، وأن الغالبية الساحقة من المواطنين يسحقها الضنك والفقر والفاقة، أحياء لكنهم ميتون، يغضبون حين تنقطع عنهم الكهرباء، ويفرحون حين تتغرغر نقاط من الماء في حلوق صنابير منازلهم، هؤلاء يبدون وكأن لسان حالهم يردد مع دوريش: “سبايا نحن في الزمان الرخو”.
والصحافة حالها أكثر إزراءً من غيرها، كونها انحدرت من مرحلة الشلل الجزئي إلى العجز التام في ترتيب أوضاعها وفقًا لما يحدث من تطور مذهل وسريع في التقنيات النظيرة لها، كالصحف الإلكترونية ومواقع التواصل الاجتماعي، فاضطر السواد الأعظم من قرائها للتخلي عنها وكذلك غادرها الكثير من كادراتها المحترفة إلى المهاجر القريبة والبعيدة، حتى الذين كانوا يغنون صباح مساء (أنا لا أُهاجرُ مَرتَّين) صاروا الآن يكملون البيت الشعر: ( ولا أُحبُّك مرتين).
بطبيعة الحال، بلغ الإرزاء بالصحف مبلغًا يجعلها تبدو كالأضحوكات الأراجوزية الصغيرة، فهي إذ ظلت تنتقد الرقابة الأمنية القبلية وتعتبرها العامل الرئيس في دفعها إلى حافة الهاوية علاوة على ارتفاع أسعار الورق وتصاعد الدولار وتكاليف الطباعة، وكل ذلك صحيح لا شك، بيد أن الصحيح (الآخر) الذي دفنت عنه إدارات الصحف وناشروها (رؤوسها) في الرمال هو الخلل الداخلي العميق الذي من صُنع أيديها وظلت تُنكِرهُ نكرانًا ولا تدخر جهدًا في التنصل منه، بدءًا من بيئة العمل المترديّة (المباني، المكاتب، الحمامات) والرواتب المتواضعة وعدم توفير الحد الأدنى من متطلبات ومعينات العمل، وليس انتهاءً بانعدام التدريب أثناء الخدمة وجذب الكادرات التحريرية المؤهلة والخبيرة، فهذه أمور دونها خرط القتاد بحجة ضيق ذات اليد وشح الإمكانيات، وهذه حجة واهية واهنة.
والحال أن كل ذلك يحدث، فيما تقف الجهة المسؤولة (مجلس الصحافة والمطبوعات) عاجزة إزائها، فرغم زياراته الدورية إلى الصحف، أو التي يقول إنه ينظمها، ورغم أنه يعلم كل شيء عن بيئتها تلك، يعلمها حد أن رئيسه السابق العبيد مروح وصف الصحف بالكناتين وكذلك فعل (أمين حسن عمر)، وأنا شخصيًا أيدتهما غير مرة في هذه المساحة، إلا أن المجلس يقف عاجزًا ومكتوف اليدين إزاء ذلك، فيما ينهض ويهرع ويفزع لمحاسبة المواد الصحفية التي يراها مخالفة لميثاق الشرف الصحفي ومفارقة للمهنية.
ولأن الصحافيين محاصرون ومطحونون بين رحىً كثيرة، رحى الرقابة الخارجية والداخلية وبيئات العمل المتردية والرواتب التي بالكاد تكفي لوجبة إفطار ونفقات مواصلات، و.. و … فإنهم وكما الأطباء صاروا نهبًا للمهاجر البعيدة والقريبة سافر منهم من سافر وينتظر الآخرون دورهم ولسان حالهم يقول: “ماذا يخسر السجناء؟”.