لا شيء يغري بالكتابة في هذا التوقيت.. سوى ألم يفوق الاحتمال، يعتصر القلب ببرودة تثير الارتجاف.. أو حزن لم يجد ترويجاً في سوق المشاعر الكاسدة.. وربما ينتظره الحساب، فالحق الإنساني في الألم مصادر حتى إشعار آخر بدعوى شرعية مجددة,وبرغم أن الحزن يظل فعلاً متاحاً ومجانياً، فإن الحكومات لا تسمح به كونها لا تتحصل بموجبه على ضرائب بالرغم من توفيرها لكل مدخلاته سراً أو جهرا، لكنها تمنح بديلاً عنه للشعوب وتسمح فقط بالنسيان، باعتباره المؤهل لامتصاص الهزائم وابتلاع التفاهمات السياسية التي أودت بوطن وتواصل هتك بقيته,ربما لم يعد للبكاء جدوى، وللانتحاب حصيلة تشفع، في إعادة تغير مسار التاريخ.. فالمذنبون بلا وعي فرحون بما تبقى خالصاً للون بشرة ذات اتجاه واحد، والمشرعون بالخطيئة صامتون من هول الذنب أو لعلهم لا يشعرون.
الخرطوم سبب الصراع:ـ
ظاهرة البيع السياسي قديمة ومتجددة وسط الأحزاب السياسية مثلا تفاقم الصراع الداخلي في حزب الأمة القومي في تلك المرحلة بين رئيس الحزب الصديق عبد الرحمن المهدي والأمين العام للحزب عبد الله خليل الذي كان رئيسا للوزراء في الحكومة الائتلافية المنتخبة بشراكة مع حزب الشعب الديمقراطي بقيادة علي الميرغني، وكما هو معلوم فقد سعي الصديق المهدي في ذلك الحين إلى فض الائتلاف الحكومي مع حزب الشعب الديمقراطي واستبداله بائتلاف مع الحزب الوطني الاتحادي بقيادة إسماعيل الأزهري ,وعندما علم عبدالله خليل بذلك المسعى الذي اعتبره مؤامرة عليه وانه قد يكون ضحية له لذلك قرر بصفته وزيرا للدفاع استدعاء القيادة العامة للقوات المسلحة برئاسة إبراهيم عبود ,واتفق معها علي ان تتولي الحكم وتسيطر علي سدة مقاليد السلطة من اجل إنقاذ البلاد من الآثار السالبة الناجمة عن تفاقم الصراعات الحزبية بين القوي السياسية الوطنية الحاكمة والمعارضة .
الأحزاب صمام أمان الوحدة:ـ
يقول المراقبين ان الأحزاب عندما كانت في الحكم استطاعت أن تحافظ على وحدة شعب السودان كما استطاع التجمع الوطني الديمقراطي الذي يعتبر صمام أمان وحدة السودان لإبرام اتفاقية سلام في نوفمبر عام 1988م عرفت باتفاقية (الميرغني ,قرنق ) هي مبادرة للوفاق الوطني،و تدعو لحوار وطني جاد، وجلوس كل الأطراف للنقاش حول النقاط الأساسية التي تشكل الحد الأدنى من الإجماع الوطني، وترتيب حقيقي للأمور التي سيقبل عليها الوطن , كما لا يستطيع احد إلقاء اللوم على الأحزاب التي سارعت بالاتفاق مع النظام ومصالحته قبل قرار التجمع بينما يظن البعض ان توزيع الاتفاقيات الثنائية على الأعضاء ساهم في التفرقة .
مشروعها السودان الجديد:ـ
جاءت الحركة الشعبية منذ تكوين الدولة السودانية الحديثة بفكرة ومشروع ظلت تدوِّله في أوساط مجتمعية مختلفة تنادي فيه بإزالة التهميش المضروب على الإنسان وبعض الأماكن وإرساء قيم العدالة الاجتماعية بين الشعوب والقبائل دون تمييز بسبب اللون أو العرق أو الدين هو مشروع (السودان الجديد) هو المشروع الرئيسي للحركة الشعبية التي حملت السلاح منذ عام 1983م تمرداً على السلطة القائمة حينها ودفاعاً عن حقوق مواطني الإقليم الجنوبي في الشعور الدائم والحقيقي بالمساواة بدولة السودان, وأثناء الحرب في الجنوب التي امتدت لأكثر من (22) عاماً كان عقل الدكتور جون قرنق قائد تلك الحركة يبحث في المشكلة السياسية السودانية ويعمل على تحليلها من خلال قراءة التاريخ السياسي العالمي, الإقليمي, والمحلي ووجد ان الجيش الشعبي أنه ملزم بتقديم بدائل سياسية لتلك التي ينتفض عليها ويحاربها وفي تنقل الجيش الشعبي ايدولوجيا من أقصي اليسار الماركسي إلى أقصى اليمين الرأسمالي كان البديل هو الهم والهاجس وفي ذات المرحلة السياسية التاريخية كانت الحركة الإسلامية تعد نفسها وأجهزتها ومشروعها الكلي لقيادة العمل السياسي بالبلاد وكانت أوبئة الحركة في عام 1983م لأحضان العدو التقليدي (نظام مايو) .
نيفاشا مساومة تاريخية :ـ
وبعد الحرب الطويلة بين الشمال والجنوب توصلت لاتفاقية (نيفاشا)للسلام الشامل عام 2005م التي تعتبر ثمرة هذه المفاوضات المارثونية بدأت منذ أيام مجلس قيادة الثورة وإقرار الدولة السودانية بحق الجنوبيين في تقرير مصيرهم بعد أن أصبح هذا الحق من مواثيق حقوق الإنسان, وانتهت المفاوضات إلى مساومة تاريخية بين حركتين (إسلامية) و(علمانية) أدركتا متأخراً أن التعايش بين الإسلام السياسي والعلمانية السياسية كالزواج بين الماء والنار لتنفض شراكة المشروعين الإسلامي والعلماني، بقيام وطنين متصارعين غير متسامحين ,بينما كل وطن يسعى لصياغة الوطن الآخر وخلاصة القول ان تجربة الشراكة لم تختلف كثيراً عن نموذج الائتلافات الحزبية في تاريخ السودان حيث طغت المصالح الحزبية الضيقة علي المصالح القومية العليا للوطن ,توالت الصراعات الداخلية في حكومة الشراكة ورسبت تبايناً كبيراً بين الشمال والجنوب خاصة في الأوقات التي شهدت تصعيداً في الخلافات وبمرور الوقت صارت خصماً علي مستقبل الوحدة الوطنية في السودان وساهمت في تغليب خيار الانفصال لشعب جنوب السودان الذي صوت بنسبة (98.7 %) لصالح نعم للانفصال وفقد السودان ثلث مساحته ونسبة من عدد سكانه والعديد من ثوابته التاريخية التي أصبحت فيما وراء حدود جديدة وتشكلت ملامح جديدة لخريطة السودان لم تجد عند الكثيرين قبولاً ذهنياً نتيجة لرسوخ الخريطة القديمة في الأذهان .
الجمهورية الثانية والاستقطاب:ـ
وبعد إعلان دولة جنوب السودان للانفصال توجهت الحكومة لما أسمته بالجمهورية الثانية وسعت حثيثاً لاستقطاب مشاركة سياسية تتحمل معها عبء إفرازات الانفصال من غياب لعائدات النفط ومسؤولية تاريخية ظلت توصمها بها القوى السياسية وهي تدافع عن نفسها تجاه ذلك تباطأت الأحزاب في قبول المشاركة السياسية من عدة اتجاهات فالبعض يرى ان على المؤتمر الوطني ان يدفع ثمن إنفراده بالسلطة طوال عقدين ونيف من تاريخ الانقلاب العسكري وأن يدفع وحده ثمن سياساته الخاطئة فيما يتعلق بالحروب الأهلية التي زاد أوارها واشتعلت في عهده، وألا تتحمل معه وزر التمزق الذي حدث للسودان بانفصال الجنوب وعودة الحرب في المنطقتين الأخيرتين اللتين كانتا تحت بروتوكولين ملحقين باتفاقية نيفاشا .
رفض إشراك الآخرين:ـ
إن أجندة الحزب الحاكم في المشاركة ومنذ العام1997م بُنيت على خلق نوع من التمثيل الشكلي للأحزاب الموالية وعدم منحها نسبة كبيرة على مستوى السلطة التنفيذية حتى لا يتأثر الحزب الحاكم في نسبته التي تعادل(50+1%) بصورة دائمة والغرض هو تمرير كافة السياسات الحزبية بالأغلبية المريحة ولم يريد أن يشرك الأحزاب الموالية أو الشريكة في صنع القرار السياسي، وظلت الأحزاب الموالية أدوات تنفيذية للبرامج التي تخرج من مطابخ المؤتمر الوطني الداخلية, بينما حمل القيادي بالحزب الاتحادي الديمقراطي (الأصل) حاتم السر مسؤولية الانفصال للمؤتمر الوطني، وقال السر في تصريح سابق له المسؤولية الآنية يتحملها هو من جعل كل الأمور بيده ورفض إشراك الآخرين وأصر على إقصائهم كما هو مسئول بجعل الحرب في جنوب السودان حربا دينية ويتحكم بالقضاء والأمن, واعتبر ان سفينة نيفاشا رست على شاطئ الانفصال، والانفصال في حد ذاته يشكل هزيمة للمؤتمر الوطني الحاكم، والشعب السوداني لن يغفر ذلك وأضاف نلاحظ أن المؤتمر الوطني دائما يبحث عن التبريرات لموقفه محاولًا توزيع دم هذه الجريمة، التي ارتكبها في حق الوطن لذلك علي كل الأحزاب التأكيد أن المسؤولية عن تفكيك وتفتيت السودان تقع حصريا عليه وحده تحمل تبعاتها حاضرا ومستقبلا.
التخلي عن الجنوب :ـ
يقول القيادي بحزب الأمة القومي عبد الرسول النور في حديثة لـ(ألوان) في تقدير البيع السياسي هو تخلي أحد الأطراف التي وقعت اتفاق ثنائي عن الطرف الآخر، مثلا الحركة الشعبية والمؤتمر الوطني عندما وقعا اتفاقية نيفاشا للسلام الشامل عام 2005م نري ان لديهم إستراتيجيتين مختلفتين الوطني هدفه وإستراتيجيته المشروع الحضاري للدولة بينما الحركة الشعبية إستراتيجيتها بناء مشروع السودان الجديد لذلك نري ان اتفاقية نيفاشا مبنية علي التكتيك وأري ان الحركة الشعبية التي تريد حكم السودان كله أو انفصاله انتصرت علي المؤتمر الوطني الذي خسر الاتفاقية خاصة بعد الانفصال وعدم تنفيذ مشروعه الحضاري الذي سعي له من خلال اتفاقية نيفاشا .
مواطنين درجة ثالثة :ـ
من جانبه يري القيادي بالحزب الشيوعي صديق يوسف انه لم يتم بيع سياسي بين الحركة الشعبية والمؤتمر الوطني في اتفاقية نيفاشا لكن يقول يوسف في حديثة لـ(ألوان)كانت هناك جدية والتزام من قبل الحركة الشعبية في الاتفاقية لكن ممارسة المؤتمر الوطني وعدم تنفيذه لبنود نيفاشا أدت لمطالبه مواطني الجنوب بالانفصال خاصة عندما شعروا أنهم مواطنين درجة ثالثة من قبل النظام وأضاف ان السياسة دائما مبنية علي المصالح وكل من الحركة الشعبية والمؤتمر الوطني كان له مصالح من توقيع اتفاقية نيفاشا.
التنازل عن جبال النوبة:ـ
اعتبر عضو هيئة علماء السودان كندة غبوش انفصال الجنوب كارثة للسودان الذي ظل موحدا (66)عاما تم التنازل عنه من قبل المؤتمر الوطني والحركة الشعبية وهو صراع بين الشمال والجنوب أو هو صراع بين قوي الإسلامية والعلمانية ,وقال غبوش في إفادة لـ(ألوان) نحن مواطني جبال النوبة أكثر المتضررين من انفصال الجنوب بسبب تنازل كل من الحركة الشعبية والمؤتمر الوطني عن جبال النوبة والذي تم فيه استهداف إسلامي الجبال الذين يشكلون حوالي (26%)من مواطني المنطقة بينما انتقد غبوش اتفاقية نيفاشا التي لم تتناول الهوية والديانة كما ركزت علي السلام الشامل وضمت مجموعات معينة وتركت أبناء جبال النوبة .
ابوجا خسرت :ـ
حينما تم التفاوض مع رئيس حركة تحرير السودان مني أركو مناوي في العاصمة النيجيرية أبوجا عام 2005م، وأُهمل خليل إبراهيم زعيم العدل والمساواة، كانت حجة المفاوض الحكومي في ذلك الوقت برؤية المجتمع الدولي، قائمة على أساس أن مناوي يمثل الوزن العسكري الأكبر في ميدان القتال، وتم التوقيع مع مناوي وجاء في منصب كبير مساعدي رئيس الجمهورية ,وانتقل ولاء جنوده لحركة العدل والمساواة تحت لافتة تحالف جديد، حمل اسم جبهة الخلاص، مثَّلت أكبر تهديد عسكري على الحكومة حيث أشعلت الحرب من دارفور إلى إقليم كردفان ووصلت حركة العدل في مرحلة لاحقة دخلت الخرطوم ,وخرج مناوي على اتفاقيه أبوحا وعاد لميدان القتال ليرث القوات العسكرية التابعة للمجموعات التي وَقَّعت اتفاقيات سياسية مع الحكومة السودانية، ومناوي في انتظار جولات تفاوض قادمة تحت قوي نداء السودان قد تعيده مرةً أخرى للقصر الجمهوري بالخرطوم.
مشاعر دراج
صحيفة ألوان