دِيالُوج
في المدى المثقل بالصمت بينهما، انحنى الآخر على موبايله الجلاكسي يكتب رسائل لأصدقاء غير منظورين ويفعِّل تطبيقات متباينة الجدوى، بينما الأول يحرك قدميه سهوا باهتزازات رتيبة وكفاه متضامان. قال وهو يحدق في ذلك الصهد البعيد:
*لماذا دائما حين نورد الأمثال والحكم، يكون أبطالها من التاريخ العربي القديم، ألم يحدث شيء هنا؟
رفع الآخر رأسه عن الموبايل، وبدا كأنه في حالة تأمل لحظوية عميقة قبل أن يجيب عن سؤال الأول:
– لأنها ثقافتنا، تراثنا أيضاً.
بحركة سريعة سحب الأول يده اليمنى ولوح بها أمام وجهه، ودون أن يلتفت إلى الآخر، قال:
*أعني، ألا يوجد تراث هنا، تاريخ، حكايات، حكم، قصص طريفة.. شيء ما نستدل به وقت الحاجة، أو نحقن به كتب المطالعة البائسة للمراحل التعليمية، أو نبرزه دراميا؟؛ يعني أين هؤلاء الناس، الأجداد أقصد، وما حكايتهم بالضبط؟
مرة أخرى أوقف الآخر مراسلته على الجلاكسي، ومثل السابقة تفكر قليلا قبل أن يجيب على الأول:
– هناك مرويات كثيرة وتُحكى شعبيا، وبعضها متداول بصورة رسمية، نعم قد تكون قليلة لكنها إلى حد ما موجودة.
في هذه المرة لوح الأول بيديه الاثنتين، والتفت صوب الآخر، وإن تجاوزه بنظراته إلى ثلة بنات يمضين بعيدا؛ قال له:
*هذا الكلام غير صحيح، ويجافي الحقيقة، وأنت تعرف ذلك. ذلك الرجل التاريخي، بعانخي، ماذا تذكر عنه الآن سوى أنه غزا مملكة أخرى بـ(شغف شخصي) على ما يبدو!! لماذا لا يذكر التاريخ الذي تسميه رسميا، أحداثا أخرى، يتجاوز تاريخا آخر، ممالك امتدت لقرون تحكم النيل.. أين هذا التاريخ: حكاياته، حكمه، بطولاته، أشعاره، أزياؤه وتلك الدراما التي تخلو من (ويحك)؟.
بدا الآخر جادا قليلا وهو يزيح جهاز الجلاكسي جانبا ويواجه الأول بعينين متفكرتين، قال:
– حتى نكون أكثر وضوحا يا صديقي، التاريخ الذي تتحدث عنه طمرته الهزيمة، ومن انتصر سادت ثقافته، وهي ما نجده الآن ونقرأه ونتعلمه ونشاهده، وربما ما يمثلنا بالفعل.
ربما. ربما!! قال الأول وهو يهش من أمام وجهه صورة شبحية للبنات بعد أن مضين بعيدا. أضاف:
*لكنني أحن إلى شيء آخر أجد انعكاسي وروحي فيه، يحقق امتدادي ويؤكد وجودي.
تمتم الآخر:
– هذا تراث إنساني مشترك، لمَ الاحتجاج.
قال الأول:
أتساءل فقط.
أمسك الآخر بموبايله الجلاكسي، بينما ضم الأول يديه وبدا – من جديد – كأنه يتأمل الصهد البعيد.