التقليَّة وقيقم والحوار
ولأن الحوارات التي تُدار في هذه البلاد في كل الاتجاهات لا تطرح إلا أسئلة غبيّة، فإن نتائجها تأتي أكثر غباءً وعقابليها كارثيَّة، وأولها الحوار الوطني، وآخرها الحوارات الصحفيِّة مع من تعدهم (جرائدنا) شبه الحائطية الماثلة (كبار القوم)، وهم في الحقيقة أصغر مما تصورهم الصحافة بكثير.. إحدى الصحف سألت أحد الكبار عن وجبته المفضلة، فقال “ملاح تقلية بالعصيدة”، وأخرى سألت آخر عن فنانه المفضل فأجاب: “قيقم”.
بطبيعة الحال، لكل ذوقه، فمن حق ذاك أن يتواضع قليلًا ويحط من قدر طعامه إلى الدرك الشعبوي (تقلية)، ولهذا الحق أن يستمع إلى أغاني (الهرش) كما يشاء، فقط أردنا الإشارة إلى أن مثل هذه الأسئلة تحط من أقدار المسؤولين، وهذا (حرام)، لجهة أن الإجابة لن تكون إجابة طالما أن المُحاوَرْ يفكر في حقنها بما يظهر ولائه لمنظومته حتى في تذوقه للطعام وللغناء.
لو كانت لي صحيفة لأوقفت كل تلك الحوارات، ولما نشرت إلا الحوارات (الحوارات)، ولحجبت أخبار المسؤولين عن القراء، لأنها (تذبحهم)، والقراء المساكين يريدون أن تتنقل الصحف أخبارهم إلى المسؤولين لا العكس، يريدون أن ترى الحكومة التي لا ترى أبدًا، ماذا تفعل بهم المحليات، وماذا يفعل بهم السوق والمدارس والمستشفيات والإجراءات الرسمية الديوانية، وماذا وماذا…؟، وهم بالتالي لا يريدون آراءً منشورة في الصحف تزجي لهم أو للحكومة النصائح، يريدون (قول الحقيقة)، بغير عسف أو تجني، وهذا يوقف الصحف فتتجنبه، ويضحك جمهور القراء منا ويسخر ثم يقاطعنا جزئيًا (قرصة في الأذن)، وحين لا تنتبه الصحف (إدارتها) يولها القراء أدبارهم ويديرون لها ظهورهم، حتى تصاب بالذبول وتمضي نحو الذهول أو العكس.
ليس مطلوبًا من الصحافة أن تطبخ حوارات بالتقلية أو تستعرض فراستها على أغنيات حماسية، لكنها تفعل ومن لا يفعل يموت ومن يفعل يموت أيضًا (والبقاء لله وحده) والحمد لله رب العالمين.
ونحكي في الصدد ذاته، عن طالب أرجنتيني كان يدرس الإعلام في (بيونس ايرس)، وأثناء ذلك التحق متدربًا في إحدى الصحف، فأوفدته كي يجرب الحوار مع الشاعر والروائي الفذ (خورخي لويس بورخيس)، فسأل وسأل وأجاب بورخيس وأجاب، إلى أن منّ الله على (الطالب/ المتدرب) بهذا السؤال فختم به الحوار: سيد بورخيس.. في النهاية، هل تود أن توجّه إلينا نصيحة أو رسالة؟ أجاب “أنا لم أعرف كيف أعيش حياتي، ولا أستطيع أن أقود حياة الآخرين. لقد كانت حياتي سلسلة من الأخطاء. ليس بمقدوري أن أعطي المشورة، وأنا أسير من غير هدى، وعندما أستذكر ماضي حياتي أشعر بالخجل. أنا لا أوجّه خطابات، رجال السياسة هم الذين يفعلون ذلك.”
هكذا يا بورخيس، أما هنا فالجماعة من (أهل الحوار) يعرفون كل شيء عن كل شيء، فيتحدثون عن النظام العالمي الجديد جنبًا إلى جنب الأغاني الهابطة وأم فتفت بالدكوة، والصحافة تنشر.. لأنها (واقعة) بين يديهم.