الصورة أفصح من اللسان، ومن يقول بغير ذلك فليُرمَ بحجارة من سجيل، والصورة بعد، تتحدث بجميعِ اللُغات فيما اللسان مهما غدا طليقًا وذربًا فإنه يعجز ويصاب بالشلل إزاء (كذا لغة). الصورة تصيب القلب والعقل مباشرة، فيما تتلوى الألسنة لتقول ربع جملة الصورة، فالمسؤول البرازيلي الكبير (المتهم بالفساد) كان في كامل حلته وبهائه (بدلة كاملة بربطة عنق أنيقة)، وربما عطر فذ، عندما شد المواطنون وثاقه إلى عامود أسطواني احتجاجًا على نهبه للمال العام.
جسد الرجل وهو معلق في (العامود) بدا وكأنه خرصانة (مصبوبة) في قالب حديدي، أو كأنه تمثال يشغل حيزًا في ميدان عام، خاصة وأن كل عناصر الصورة كانت محتشدة في الرجل المصلوب الفاسد،اللون، الظل، الإضاءة، الخطوط، الأشكال، الأيقونات والرموز، عتبات التأويل والإيحاء، وكلها تفضي إلى خلاصات واستنتاجات تفوق توصيات اللجان والأجسام المسماة رسميّا لمكافحة الفساد.
والحال أن النشطاء الذين قرروا (صلب) الرجل وتصوير المشهد ونشره، أرادوا بذلك إصابة أهداف كثيرة، لكنهم اختزلوها في جملة واحدة وهي: “ما قمنا به يعتبر درسًا حضاريًا كبيرًا لكل الشعوب الحيّة التي لا تتخلى عن حقوقها”. وهكذا تصيب الصورة الهدف في مقتل، إذ يتجلى البعد الجمالي لتعليق الفاسد على العامود ليس في الفعل فحسب، بل في الصورة التي أعقبت ذلك، ثم في نشرها وتداولها على نطاق واسع، وكذلك في الكيفية التي التقطت بها خاصة وضعية المسؤول وهو (ملفوف) على العامود والخلفية التي تكشف عن فرجة كبيرة حيث يتجمع جمهور غفير في مشهدية لا نظير لها فيها إدانة قاطعة للفساد ورسالة مفادها أن لا تهاون ولا مهادنة إزاءه، وإن جاء كل ذلك (خارج القانون)، وفي ذلك إدانة للقانون نفسه وإشارة إلى عجزة عن الإحاطة بالفساد ومرتكبيه الكبار.
إذا ما نظرنا إلى تلك الصورة بمفهوميها المادي (الشكل والهيئة)، أو المعنوي المتمثل في الدلالة على (الصفة والجوهر)، فإن الخلاصات بالنسبة لنا هنا في السودان (مواطنين وحكومة) ستكون باهظة الكلفة، فهي من ناحية كما أسلفنا تدين أمور كثيرة (الفساد، القانون، المجتمع، الحكومة)، ثم لا تكتفي بذلك بل تقدّم تصورًا لما ينبغي أن يحدث إزاء فعل الفساد، وهو ما وثقته تلك (الصورة) نفسها (الصلب والتشهير)، وما يعقب ذلك كله من حالة تفاعلية لا تستطيع آلة التصوير وحدها الإيفاء بها ما يتطلب البحث عن مسرح (كبير) لتنظيم حفل (النشر/ التشهير) وهذا ما وفرته مواقع التواصل الاجتماعي الخارجة عن الرقابة الرسمية والمتحررة من أغلال القوانين السلطوية في ما يتعلق بالنشر والذيوع ، فكان أن حققت الصورة تلك، هذا المعنى بكفاءة ودقة، وطرحت أسئلة مهمة وعميقة، آخرها وأولها يأخذ شكل الاحتمال القابل للتحقق، وهو أنه لربما إذا استمر عجز الأجهزة الرسمية – في أي دولة – عن محاربة الفساد، فإن مشهدًا مماثلاً سيحدث يومًا ما، وصورة كتلك ستُلتقط ربما في (أبو جنزير).