بقلم :منى عبد الفتاح (كاتبة سودانية) ..
باختياره اليوم الذي يمثل الذكرى الخامسة لهجمات النرويج قبل 5 أعوام بالضبط، قام الألماني من أصل إيراني علي سنبلي بهجمات مشابهة على مدينة ميونيخ الألمانية يوم 22 يوليو الجاري. قتل النرويجي أندرز بيهرينغ بريفيك 77 شخصاً في هجمات نفذها في العاصمة أوسلو وما حولها، ويكون بذلك قد أكد القاتل الألماني أنّ ثمة ارتباط واضح بينه وبين القاتل النرويجي، خاصة فيما وُجد في مذكراته عن اهتمام بالقتل الجماعي.
ونعود إلى ذلك اليوم من عام 2011م، حيث قتل بريفيك 8 بتفجير قنبلة في العاصمة أوسلو قبل أن يتوجه إلى معسكر صيفي للناشطين اليساريين الشباب في جزيرة أوتويا القريبة ويقتل 69 رمياً بالرصاص. ويقضي بريفيك الذي يبلغ الآن من العمر 38 عاماً حكماً بالسجن لمدة 21 عاماً في سجن انفرادي في النرويج. واستأنف بنجاح مؤخراً ضد ظروف سجنه الصعبة. وكانت لبريفيك آراء يمينية متطرفة، وقال إنّ الهجوم الذي نفذه يهدف إلى وقف هجرة المسلمين إلى أوروبا.
في حادثة ميونيخ قتل علي سنبلي 9 من أصول مختلفة أغلبهم مسلمون أتراك وكوسوفيون، ويوناني إضافة لألماني وكلهم من الشباب، ما يشي بأنّه قد تم استدراجهم إلى مكانيّ الحادث.
الغريب أنّ سفاح النرويج أندرز بريفيك قد قرّر دراسة العلوم السياسية في جامعة أوسلو من زنزانته بالسجن. وعندما يقوم شخص ما بدراسة العلوم السياسية يكون منطلقاً في الغالب من مبادئ الخير بمنطق ابن خلدون، ولا أدري لماذا قرّر أندرز اختيار دراسة العلوم السياسية دون غيرها، وقد علّقت والدة أحد الضحايا بأنّه كان عليه دراسة علم النفس. عرّف روبير السياسة بأنّها فن حكم المجتمعات الإنسانية، أما ديفيد أيستون فقد قال عنها أنّها التوزيع السلطوى للقيم من أجل المجتمع.
هذا العلم لن يكون مغرياً لقاتل أزهق عشرات الأرواح إلّا إذا أراد تطبيقها بما يتم باسمها هذه الأيام. ويوماً بعد يوم يختلف علم السياسة عن ممارستها، ولا تنطبق النظرية والتطبيق إلّا في المدينة الفاضلة، عالم أفلاطون الجميل الذي لم يتحقق يوماً. فالسياسة في حقيقتها تهدف إلى خلق المواطن الواعى الصالح وذلك بتزويده بالعلم والمعرفة السياسية الواضحة، وتحاول منع ظواهر الصراع والتنافر والتمايز، كما تهدف إلى تنمية الولاء للوطن ومن ضمن ذلك تعريف المواطن بالمعلومات الأساسية عن نظامه السياسي. ولكن عندما نجيء إلى أرض الواقع حيث التطبيق نجد أنّ كل هذه الأهداف يتحقق معكوسها إلى درجة المغالاة.
ربما كان التطبيق للسياسة بالشكل القبيح الذي نشهده في عالم اليوم هو الأقرب إلى روح أندرز، فمن يستبيح قتل 77 نفساً واعترافه بأنّه كان يهدف إلى حماية النرويج من “الاجتياح الإسلامي” وأنّه هاجم العماليين الذين يحكمون البلاد بسبب السياسة التي ينتهجونها في مجال الهجرة والتي قال إنّها تعزز التعددية الثقافية، لا يختلف كثيراً عن حكّام اليوم في العالم العربي، ومنهم من أباد ملايين من شعبه في حرب عرقية وإثنية، ومنهم من أدخل بلاده في دوامة حرب تجاوزتها لتصبح إقليمية، ومنهم من استيقظوا من القرون الوسطى ووجدوا الفوضى ضاربة بأطنابها فقرروا أنهم أولى بها وأداروها بما لم يخطر على بال أي ديكتاتور عربي.
أصرّ أندرز على دراسة العلوم السياسية، وقد قوبل طلبه الأول بالرفض، قبل أن يخضع لدورات في السجن وتنطبق عليه معايير القبول المبنية على أنّ جميع السجناء النرويجيين لهم الحق في مواصلة تعليمهم العالي إذا استوفوا شروط القبول والتنافس بنجاح. وقد يخرج أندرز من السجن وهو حاصل على فرصة للحياة دون عنف لأنّ علم السياسة ينحو إلى مناهضة العنف سواء أكان عنف الذات أو عنفا ضد الآخرين، وهي ما لم تتحقق للأحرار خارج القضبان، بالوصول إلى حقيقة هذا العلم الجميل وأنّ دراسة السياسة “فنّ الممكن” هي تعبير عن مُثل وقيم وفعل خير يمكن تطبيقه على الواقع في شكل الحكم.