لا خبر إلاّ المعارضة
ما لا شك فيه ولا جدال، أن وظيفة النقد الرئيسة هي (تصحيحية)، وهذا لا ينفي أهمية وظائفة الأخرى كـ(البنائية، والتكميلية الاستدراكية) وخلافها، فالعملية النقدية الشاقة تسعى دائمًا إلى التنبيه لمواطن الخلل والقصور في موضوع أو فكرة ما من أجل تصحيحها وتقويم اعوجاجها، ولذلك يضيق كثيرون بها، كونها تسعى لإعادة الأمور إلى نصابها الصحيح وصراطها المستقيم وبالتالي وإذا ما أنجزت هدفها بكفاءة وفعالية فإن كثيرين سيطاحون مما هم يتمرغون فيه من أوهام وأكاذيب وضلالات، يخدعون بها غيرهم بادعاء أنها الحقيقة المطلقة وسواها محض خطرفات وهذيان.
بطبيعة الحال، لن أجعلني أحلم أن كتابات مُتناثرة كالتي نبذلها في صحافة مُنحسرة آيلة إلى رُماد، إن لم تكن (ترمدت) بالفعل، ستنجح في أداء وظيفتها التصحيحية (النقدية)، خاصة في ما يتعلق بنقد الفضاء السياسي (معارضة وموالاة)، خاصة الأولى، فالحكومة نالت حظًا وافرًا من ذلك حتى أصبح (جلدها أخرش)، لا تبالي ولا تهتم، و(ما لجرح بميت إيلام) كما قال المتنبئ. لكن المعارضة لم يوف لها الكيل إلى الآن، فلا أحد يتحدث عن فسادها وديكتاتوريتها وإقصائيتها وعنصريتها، لجهة أنها تضع نفسها في موقع (المفعول به)/ المظلوم، حارس تطلعات الشعب نحو مجتمع ديمقراطي ودولة مزدهرة متقدمة، فيما هي في الواقع تمضي عكس ذلك تمامًا وتختزن من العيوب بما يرقي إلى الأزمات الهيكلية، فهي لا تفعل على الأرض سوى شن حروب كلامية ضروس لا تزيد جسد هذا الوطن إلا ترهلا وانشقاقا، معارضة تعرض عن عمق أزمات الوطن وهمومه الحقيقية في النهضة والتنمية وتنخرط في معارك جانبية واصطراع داخلي وتجييش أيديولوجي يشي بعجزها التام عن التعاطي الايجابي مع خيارات الشعب في حياة كريمة لا تتأتى إلا بإيقاف الحرب أولاً، ثم الدخول في تفاهمات سياسية تفضي إلى واقع مختلف، لكنها لن تفعل ذلك فبعضها أضحى محض ظاهرة كلامية، وجلها يساوم من أجل تسوية سياسية مع الحكومة من أجل الحصول على نصيب أكبر من السلطة، والمعارضة (مسلحة وسلمية) في هذا السياق، حتى وإن حصلت على أنصبة معتبرة من الحقائب الوزارية، فهي لا تملك مشروعًا سياسيًا مختلفًا عن المطروح من الآن، إلاّ في بعض الأمور الصغائر (دولة مدنية أم دينية) مثلًا، وحتى هذه التفصيلة مستعدة لتجاوزها والالتفاف عليها كما حدث مع الحركة الشعبية لتحرير السودان (اتفاق السلام الشامل)، ما عدا ذلك، فلا خطط للتنمية الاقتصادية وترقية الخدمات وإدارة الدولة.
والحال، إن المعارضة بشقيها العنيف والسلمي، هي الوجه الآخر للحكومة كونها منشغلة بنفسها دون تطلعات المواطن الحقيقية، وبالتالي فهي عاجزة عن إنجاز خطاب سياسي واقعي وقابل للتطبيق والتحقق في الواقع، فقد أنفقت عقودا من الزمن في مواجهات فارغة دون إيجاد صيغة لزحزحة الوضع القائم (القاتم) ولملمة جراحه، لأنها لا تزال ترزح تحت وطأة الفكر المبني على التقابل والتناقض والثنائية ولا تحسن تدبير وإدارة الاختلاف وبالتالي فإن خطابها المبذول وأداءها الماثل لا يعبران بأي حال من الأحوال عن هموم المواطن وتحقيق أحلامه في الكرامة والتنمية والعدالة الاجتماعية، وطالما أن الأمر كذلك فعليها أن تأتي وتعقد تسوية مع الحكومة على المناصب فترتاح وتريح.