محمد لطيف : وُوُرِي العِلمُ.. الثَرّى

في ذلك اليوم وشهر سبتمبر من العام قبل الماضي يلفظ ثلثيه دلفنا إلى القاعة الفخمة لنستمع إلى الطيب حاج عطية وهو يحدثنا عن الحرب والسلام.. قلت لمرافقي غير السوداني المهتم بالسودان.. هذا الرجل خير من يتحدث عن الحرب.. وهو أيضا خير من يتحدث عن السلام.. سألني مرافقي.. بم سيبدأ.. أجبته وأنا ابتسم.. سيبدأ بمفاجأة.. لحظتها كان الخبير في الإعلام.. الخبير في السياسة.. الخبير في فض النزاعات.. والمحاضر بجامعة الخرطوم الدكتور الطيب حاج عطية قد بدأ حديثه: “قبل خمس سنوات لما قلنا لا للحرب ونعم للسلام هناك جماعات وجهات هاجمونا هجوم شديد وقالوا مخذلين.. لكن نحن كنا نريد تخذيل المخذلين لإيقاف الحرب والسعي إلى السلام”..!
أما أنا فيومها قد تركت صديقي لدهشته ورحت أتابع الطيب وهو يدعو لصياغة عقد اجتماعي جديد بين السودانيين عبر برلمان منتخب من الشعب ويدعو لكفالة الحريات الصحفية.. ويشدد على صيانة الحقوق المدنية.. وعلى رأسها حق التظاهرات السلمية.. وكان الطيب جريئا وهو يتحدث من قلب الخرطوم.. عن معاناة سكان الأطراف أو الهامش.. كما قال.. من الفقر وإحساسهم أنهم مواطنون من الدرجة الثانية.. ولم يكن غريبا أن تحظر السلطات بعد ذلك ندوة كان يزمع الدكتور الطيب حاج عطية الحديث فيها عن كيفية إدارة التنوع لصالح الجميع..!
الطيب كان نسيج وحده.. سألته مرة عن أبيي.. قام إلى خزانته.. مد لي دراسة عمرها سنوات.. عن كيف تكون أبيي منطقة تكامل وتعاون بين الشمال والجنوب.. وكيف تكون أكبر مركز تجاري يخدم أفريقيا كلها.. قال لي يومها: يجب أن نفكر دائما كيف نحول البشر إلى عنصر إضافة لا خميرة عكننة.. حدثنا صديقنا الدكتور مرتضى الغالي مرة.. قال.. حدثنا الطيب حاج عطية عن جيش الرب حتى ظننا أنه مؤسسه.. وحين نقلت حديث مرتضى للطيب.. ابتسم ابتسامته الهادئة وهو يقول لي: “قول لدكتور مرتضى أنا ما أسست جيش الرب.. لكن قعدت مع جوزيف كوني زي عشرة مرات”..! هكذا كان الطيب حاج عطية.. مستودع أسرار وأفكار ورؤى ومعلومات.. من مظانها.. باذلا لمن طلبها.. وكم أكثرنا من طلبها فما بخل يوما..!
دهشت حين لم أجد في سيرته الذاتية التي وزعت عقب نعيه أنه خبير جامعة الأمم المتحدة للسلام في طوكيو.. كان ذلك تقديرا عالميا كبيرا لعالم عظيم..!
وبالعودة إلى ندوة سبتمبر تلك.. وفي ما يشبه الوصية الأخيرة يطالب الدكتور الطيب حاج عطية بتوظيف فرصة الحوار بين الفرقاء السياسيين في السودان.. وابتهال تزامن الحملة الوطنية لمناهضة الحرب مع مبادرة الحوار الوطني بإدارة حوار جاد وشفاف وعادل والسماح بالمشاركة السياسية واحترام اللغة والشكل والتنوع للوصول إلى النظام الديمقراطي الذي يكفل الحقوق الأساسية للمواطن..!
كنت طوال الخميس أمس الأول مفجوعا برحيل أستاذي وصديقي ومستشاري وقدوتي الدكتور الطيب حاج عطية.. غير أن منتصف الليل كان لحظة أكثر إيلاما وشراسة حين قال لي صهره الدكتور حسن أحمد طه: “كل ذلك العلم والتواضع والتهذيب وحسن الخلق دفناه تحت التراب”..! له الرحمة.

Exit mobile version