في هذه الأيام يقوم الراغبون بأداء الحج في هذا العام بعمل إجراءات الحج، رأيت بهذه المناسبة أن أعيد طرح هذا التنبيه حرصاً على الخير وأداءً لحقوق الأخوة فأقول: (ليس الفقيه هو الذي يعرف الخير من الشر ولكن الفقيه هو الذي يعرف خير الخيرين، وشر الشرين)، عبارة يكثر ذكرها العلماء .. سديدة وموفقة، ولها دلالاتها العظيمة .. ومن المؤكد أن المقصود بالمعرفة هنا التي يتبعها العمل .. فالعلم دون عمل لا مزية له ولا فضل .. بل هو وبالٌ على صاحبه .. ومع أننا في زمان انتشرت فيه المعرفة .. وسهل الوصول إلى المعلومات بأدنى الجهود .. إلا أن الكثيرين لم يصلوا إلى مرحلة معرفة الخير من الشر .. وهي مرحلة قبل التي أردت الحديث عنها في هذا المقال .. كثيرون يختلط عليهم الخير والشر .. فلا يميزون بينهما .. وقد قال القائل: عرفت الشر لا للشر لكن لتوخيه .. من لم يعرف الخير من الشر يقع فيه وجاء في حديث حذيفة رضي الله عنه أنه كان يسأل النبي عليه الصلاة والسلام من الخير مخافة أن يدركه.. رواه البخاري ومسلم. وأسوأ من أولئك ـ الذين لا يفرقون بين الخير والشر ــ حالاً من يصير الخير عنده شراً .. والشر خيراً .. والمعروف منكراً والمنكر معروفاً ..والخطأ صواباً .. والصواب خطأً.. يُقضَى على المرء في أيام محنته .. حتى يرى حسناً ما ليس بالحسن. وأسوأ منهما حالاً .. من لا يحب الخير ولا يأتيه.. ويحب في المقابل الشر .. ويجتهد في الوقوع فيه .. والتلبس به، وقد يبذل لذلك الكثير والكثير .. بل وربما يسعى للمجاهرة بذلك!! وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: (كل أمتي معافى إلا المجاهرين) رواه البخاري ومسلم. وأما من أراد الله بهم الخير .. وفقههم في دينه .. فإنهم وُفقوا لمعرفة خير الخيرين .. فاختاروه .. وعملوا به .. فكثرت لهم أجورهم .. وزادت لهم حسناتهم.. فالحياة ساعاتها قلائل .. والعمل الصالح هو الزاد الذي يُتزود به لتلك الرحلة.. وذلكم السفر.. والصدقة الجارية عموماً أفضل من المنقطعة.. كما أن النفع المتعدي أفضل (غالباً) من نفع الإنسان الذي يقتصر عليه ــ في غير الفرائض طبعاً ــ ولتوضيح ذلك بالمثال ولأنه في هذه الأيام يتم التقديم لإجراءات فريضة الحج أذكر هذا الموقف، وهو أني التقيت بمكة المكرمة ببعض الإخوة الحجاج القادمين من السودان .. وقد ذكروا لي أن تكاليف حجهم بلغت مبالغ كبيرة، وبعضهم يحج للمرة الخامسة .. وآخرون لأكثر من ذلك، وكثيرون من هم في مثل حالهم.. وقد ذكرت لهم أن من سبق له أن حج الفريضة قبل هذا الحج فضلاً عمّن كرر الحج عدة مرات، فرأيي أنه كان بالإمكان أن يصرف هذا المبلغ في أمر آخر ويكون ذلك العمل أفضل له أجراً وأكثر له ثواباً .. وأرفع له درجات عند الله تعالى .. خاصة وبلادنا يعيش (غالبية) أهلها في فقر شديد.. والدعم يحتاجه الأفراد، بل وتحتاجه المجموعات والحاجة إلى ذلك ماسة .. والناس في عدم وفقر شديد وبحاجة إلى دعم .. فيوجد أناس لا يجدون مكاناً يصلون فيه .. وآخرون مرضى .. لا يجدون العلاج ولا تكاليف العمليات التي تم تأجيلها أشهر وربما سنوات، وآخرون امتلأت بهم السجون في ديون لم يستطيعوا سدادها .. أرامل وأيتام.. لا يجدون قوت يومهم.. ودعاة لم يجدوا ما يكفيهم وأبناءهم من الكفاف ليتفرغوا لتدريس وتعليم الناس الخير.. وقرى بحاجة إلى مدارس .. وأخرى بحاجة إلى مراكز للعلاج.. وآخرون يتمنون حفر بئر ليشربوا وتشرب منها بهائمهم، ولا تزيد تكلفتها على خمسة آلاف من الجنيهات فقط!! ولا يجدون من يقوم بذلك إلا بعد سنوات طوال، والقارئ قد يعرف نماذج لذلك أكثر مما ذكرت .. فإذا كان المقصود هو (الحصول على الأجر ورفعة الدرجات وكسب الحسنات).. فإن الموفق هو الذي يجتهد في إدراك العمل الذي هو خير له وأفضل من العمل الآخر الذي يكون أجره أقل.. ويحرص على الظفر بما كان أكثر ثواباً وأعظم نفعاً .. وبالإمكان أن يكون المبلغ الذي يجمعه ثلاثة أو أربعة كما في المثال السابق كافياً لإنجاز مشروعات كبيرة.. ويقاس على هذه الأمثلة أخرى، ونماذج أخرى .. والإشارة في مثل هذا المقام كافية.. ولا يلتبس الأمر على البعض.. فإني وجهت حديثي لمن سبق لهم أداء فريضة الحج، وأما من كانت حجته هي حجة الفريضة فقد يكون فعله هو من خير الخيرين.. وذلك يرجع إلى حاله .. وإننا إذا نظرنا في حياتنا اليومية ومواقفنا وتصرفاتنا لوجدنا حاجتنا إلى إدراك هذا المقام وبذل المزيد من الوقت والجهد في التعلم لنكون على بينة من أمرنا وأعمالنا، حتى تكون تصرفاتنا وأعمالنا تثمر الظفر بخير الخيرين .. في كل الأوقات والأحوال .. في الإنفاق والإعطاء .. وفي المجاملات، وما أدراك ما المجاملات!!.. والتعلم والتعليم .. والكتابة والتأليف .. والنصح .. وفي نوافل العبادات .. وغير ذلك .. بل تدخل في القاعدة حتى الأعمال الدنيوية، ومشروعاتنا الخاصة.. والأدلة الشرعية والشواهد لهذه القاعدة كثيرة ومعلومة.. والاجتهاد في تطبيقها في تصرفاتنا دليل واضح وبرهان ساطع على صدق دعوانا في عبوديتنا وعلى عظيم رجائنا لفضل ربنا .. وإدراكنا لحقيقة استخلافنا في الأرض.. وبالجملة فهو ترجمة عملية لحرصنا على اغتنام الأيام الخالية .. وهو مقام عظيم .. لا يُخاف على صاحبه ـ بإذن الله ــ في الدنيا والآخرة … والموفق من وفقه الله.