خربشات الجمعة
(1)
ظلت مدينة الأبيض بوجهها الصبوح الباسم والسيارة تهبط إلى أسفل من قمة جبل كردفان.. على اليمين معسكر تدريب الفرقة الخامسة مشاة أو (الهجانة أم ريش أصل الجيش).. وما تذكر فرقة الهجانة إلا وتجول في الخاطر صور شهداء معارك الجنوب الذي سلمته حكومتنا لمن هم لا يستحقون ذلك الشرف (روب في كورة) كما يقول الراحل “الشريف زين العابدين الهندي”.
معسكر الهجانة أم ريش على تخوم أطراف أحياء الأبيض الشرقية بدا خالياً من المتدربين مثله وخورطقت التي (جففت) رغم تهاطل دمعات المحبين، وقد ذبحها “عبد الباسط سبدرات” من الوريد إلى الوريد كوزير للتربية تنزلت عليه قرارات الحكم بإعدام منارات التعليم في خورطقت ووادي سيدنا وحنتوب.. تتداعى تلك الذكريات المفجعة كما تتهاطل الدمعات على رحيل “العميري” ونضوب معين ورحم الأبيض الولود لمواهب كرة القدم.. حيث جفت الميادين من أنجاب أمثال “منصور بشير تنقا” و”عبد الباقي الطاهر”.. ومصباح فطر جاد الله” أفضل مدافع سوداني منذ الخمسينيات وحتى اليوم.. عند مدخل المدينة يطل الشارع الفسيح.. والأنوار الباهرة.. والمطار الذي عادت إليه الروح بعد موات طويل.. الشارع الرئيسي الواصل وسط المدينة بالمطار زرعت على جنباته أشجار تبلدي تم جلبها من دار حمر في أقاصي الشمال الغربي من كردفان.. وتمت زراعة التبلدي على جانبي الشارع، ولكن عبقرية الفكرة هزمها التقليد الأعمى.. بزراعة أشجار النخيل في بيئة غير بيئته.. ووطن ليس وطنه.. يبست النخلات الباسقات.. وشحبت أوراقها.. وضحك صديقي الساخر الذي كان رفيق دربي في رحلة العودة للديار ثاني أيام العيد الماضي، وهو يمد لسانه إلى السلطة كعادته.. بأن والي الأبيض “أحمد هارون” زرع التبلدي بإحساسه وضميره.. وزرع النخيل إرضاءً للسادة في الخرطوم الذين يعتبرون حتى التعدد البيئي والشجري ضرباً من أسباب الفرقة والشتات، وهم في مخيلتهم أن التعدد البيئي قد يغري بالتعدد الثقافي والأثني.. لذلك يعتبر النخلة هي الشجرة الوحيدة التي ينبغي زراعتها في شوارع كل السودان حتى في أقاصي الغرب البعيد.. ومع فوائد النخل الذي يتساقط منه الرطب إلا أن النخل لا ينبت في كل مناطق السودان.. وتعدد وتنوع النباتات المغروسة في الشوارع من مظاهر الحضارة والرقي.. وإضفاء الجمال على المدن.. ولا يبدو جمال النخلة إلا إذا زرعت بالقرب منها تبلدية وشجرة لالوب.. وشجرة عرديب.. ومهوقني وأبنوس، وليست الشجرة التي جاءت بها عبقرية تجار الخرطوم (الدبس السعودي) الذي ينبت سريعاً ويتغلغل في الأرض بحثاً عن الماء في (مواسير) المياه المدفونة في باطن الأرض.. وزراعة “أحمد هارون” للنخل في الأبيض التي يطلق عليها مديرية اللالوب مبررة سياسياً وغير مبررة ثقافياً.. باعتبار أن المركز الذي تمثل النخلة ودلالاتها ورمزيتها الكثير له.. هو من جعل المال يتدفق بلا حساب من أجل نجاح “أحمد هارون” في شمال كردفان لا من أجل إنسان كردفان الذي حرم في عهد “معتصم ميرغني حسين زاكي الدين” من زيارة رئيسه “البشير” ولو مرة واحدة لمدة عامين كاملين، بينما في عهد “هارون” لا يمر أسبوعان إلا وطاف بأحياء الأبيض كبار المسؤولين يقدمون خدماتهم ويتبرعون بما ملكت أيديهم إرضاءً لمن نال رضا القيادة العليا.
(2)
كثيراً ما يختار المهندس “الطيّب مصطفى” وضع نفسه في دائرة الضوء.. ولا يأبه كثيراً بسهام النقد التي تنهال عليه.. وسياط الأقلام التي تنال مما يكتب.. وفي ندوة نظمتها صحيفته مع مركز دراسات المستقبل وجامعة بحري ثلاث مؤسسات كبيرة تشترك في إقامة ندوة صغيرة عن قضية مهمة.. يطلق فيها المهندس “الطيّب مصطفى” دعوة لتقسيم الجنوب بعد أن ذهب لحال سبيله و(فارق درب السودان).. لكن الجنوب ظل مادة صحافية حاضرة في صحف الخرطوم سواء تلك التي تتصيد أخبار الجنوب السيئة بغضاً وكراهية فيه.. أو تلك الصحف المتعاطفة مع شعب هو جزء منا.. “الطيّب مصطفى” طالب بانفصال أعالي النيل عن بقية الجنوب من أجل أن تصبح (ترياقاً) بين السودان والجنوب.. وتلك من الدعاوى الغريبة، هل يطيق السودانيون رأياً سياسياً جنوبياً بدعوة إقليم جبال النوبة للانفصال عن السودان حتى يصبح (ترياقاً) بين الجنوب والسودان؟؟
لماذا يرضى “الطيّب مصطفى” للجنوب ما لا يرضاه للسودان.. حلال دم الجنوب وحرام دم الشمال؟؟
ويفضح “الطيّب مصطفى” نفسه ومعه كثير من النخب الشمالية التي تجهل تركيبة الجنوب السكانية كجهلهم بطبيعة بعض مناطق السودان، ويقول “الطيّب مصطفى” على ذمة صحيفة ورئيس تحريرها “محمد عبد القادر” وهو صحافي محترف جاء لمنصب رئيس التحرير بعرق المحرر ومثابرة المحاور والمحلل.. يقول إن “الطيّب مصطفى” زعم أن انفصال أعالي النيل سيفصل الدينكا عن النوير!!.. “الطيّب” ظن وبعض الظن جهل.. أن النوير يقطنون في أعالي النيل والدينكا في بحر الغزال، وفي واقع الأمر أن أعالي النيل تتكون من أربع محافظات هي الرنك في الشمال والوحدة في الغرب وجونقلي في الجنوب الغربي وأكوبو والناصر في الجنوب الشرقي.. وينتشر الدينكا في أعالي النيل مثلما ينتشرون في بحر الغزال.. في الرنك يقطن دينكا أبيلنق وهؤلاء من شاركوا في الثورة المهدية، و”رنك” الذي سميت عليه المنطقة هو أحد أمراء جيش الإمام “المهدي” من الدينكا.. ويشاركهم قليل من النوير وأغلبية من الشلك في مناطق فشودة والقيقر وأبو خضراء وحتى منطقة جودة الفاصلة بين الدولتين هي بها أعداد كبيرة من دينكا أبيلنق.. وولاية جونقلي يقطنها النوير في واط وأيود وكنقر.. ولكن تعتبر مدينة بور العاصمة التاريخية للدينكا يعتبرونها مدينتهم المقدسة، لذلك حينما اجتاحتها قوات حركة استقلال جنوب السودان بقيادة “وليم نون” وارتكبت مذابح عرقية في عام 1992م، ولم ينسَ “كول ميانق” و”بيور الأسود” وكلاهما من أبناء بور.. مأساة حرب “مشار” والحركة الشعبية المعروفة بحرب (أيما) زوجة “مشار”.. وفي تلك السنوات ركبت الصحافية اللبنانية ذائعة الصيت “عفاف زين” الصعاب وشقت طريقها إلى ما يسمى بمثلث الموت في (وط أبود كنقو) وقيل حينها إن عدد ضحايا تلك الحرب يفوق ضحايا النزاع بين الشمال والجنوب منذ 1983م، وحتى النصف الأول من التسعينيات.. ويقطن منطقة البيور في شرق جونقلي قبيلة الأنواك التي دخلت في حروب مع النوير بسبب ممارساتهم باختطاف الأطفال وتبنيهم.. لضعف الإنجاب في تلك المنطقة.. لأن مرض الزهري الذي تفشى هناك منذ الحرب العالمية الثانية 1942م، قد قضى على رجولة الرجال وتلك من أخطاء الشمال الكبرى ومخازي ضمائر السلطات المتعاقبة التي لم تشعر بأن هناك مواطنين يحتاجون فقط لجرعات دواء يشفون من مرض الزهري.. وفي ولاية الوحدة هناك وجود لدينكا عطار وقليل جداً من الجور.. فأين يذهب هؤلاء و”الطيّب مصطفى” يفكر في تقسيمات عرقية لجنوب يمرض الآن ولكنه بالطبع لن يموت.. ويستطيع أن ينهض بعد كبوته.. ولكن متى ينظر الشماليون بعين الإنصاف لإخوتهم في الوطن الآخر.. والمهندس “الطيّب مصطفى” لا يمثل شخصاً عادياً.. بل هو من عمق أعماق السلطة وتيارها العميق في تربة السودان النيلي.
(3)
إذا كان بعض السياسيين يجهلون ما يجري في أطراف السودان القصية.. فإن الجنوب كان منطقة مجهولة لكثير من الصحافيين.. منذ حرب 1953م، في سنوات حكم ما قبل الاستقلال، ظلت صحافتنا الوطنية تكتب عن الجنوب من الخرطوم لا تكلف نفسها مشقة السفر لتوريت وكبويتا إلا قلة بعدد أصابع اليد الواحدة.. والآن الحرب في الجنوب القريب تكتب عنها الصحافة السودانية من على البعد وصحافية مثل “عفاف زين” تصل إلى واط وأيود.. والصحافي اللبناني “يوسف خاذم” يقيم شهوراً في الأكواخ مع المقاتلين من الجيش الشعبي في رمبيك.. هل كلفت أي صحيفة نفسها مشقة السفر لمدينة جوبا.. لاستقصاء الحقائق على الأرض؟؟ ونقلت وقائع الأحداث من مصادرها؟؟.. بل هل صحافتنا تخرج لجنوب كردفان القريبة وجبل مرة وكارنوي وأم برو؟؟.. لماذا نكتب من مكاتبنا ونحلل بمزاجنا والجنوب اليوم أصبح امرأة مباحة كما يقول “نزار قباني”؟؟.. فألف تشكرون وكل جمعة والجميع بخير.