الكتابة والدَّق
يحكى أنّ المفكر السوداني والزعيم الشيوعي الراحل محمد إبراهيم نقد، كان قد عرف في معرض حوار معه عقب صدور سفره القيم (علاقات الرق في السودان)؛ الكتابة بأنها الدّق وذلك حين قال: “إذا كانت القراية هي أم دق فإن الكتابة هي الدق زاتو”، وبالطبع المقصود المشقة والعنت والجهد وبذل العمر والصحة في مقابل إنجاز مشاريع الكتابة، والكتابة المقصودة هنا من الواضح أنها تلك التي تقترب مفهوميا وقيميا من محتوى (كتاب) المفكر الراحل الذي كان يُحاوَر حوله، بمعنى أنها تلك الكتابة منتجة الفكر والنقد ومنجزة الأسئلة العميقة التي تتعلق بحياة الإنسان فلسفيا وأدبيا واجتماعيا وتاريخيا وفي كافة ضروب المعرفة، وبتعريف آخر أكثر وضوحا وتبسيطا هي الكتابة (الجادة)، التي يعني إنجازها مكابدة (الدّق) والصبر على ألمه المبرح.
قال الراوي: زيارة سريعة إلى المكتبات لاسيما الكبيرة منها في المدن العربية ومنها الخرطوم (الدار السودانية – مثلا)؛ أو إلى معارض الكتب الكبرى التي أصبحت تقليدا سنويا يحتفي بالقراءة في أغلب بلدان العالم بما فيها السودان رغم تراجع مستوى معرضه من عام لآخر؛ زيارة مثل هذه قد تولد ملاحظتين لدى القارئ أو المثقف السوداني، الأولى تتعلق بهذا الإنتاج الضخم المتنوع للمكتبة العربية (بالذات) في كل أشكال المعرفة، هذا العدد الهائل من الكتب النقدية والفكرية والأدبية والتاريخية ووو بكل تفريعاتها وأبوابها وتشعباتها، وهذه الأسماء (المفكرة) التي تتزايد يوما بعد الآخر ممثلة لكل الأجيال، نشاط معرفي هائل وتدفق مذهل لعملية النشر والتوزيع للدرجة التي قد تصيب المرء بالصدمة، حتى لو اكتفى بكاتب واحد (فقط) وتابع عناوينه الموزعة على الرفوف المكتبية ستلجمه الدهشة. تلك الملاحظة الأولى، أما الثانية (افتراضية) فتتعلق بـ(أين نحن؟) أو أين الكتابة السودانية، أين الإنتاج السوداني في الفكر والنقد والأدب ووووو أين المكتبة السودانية؟ هل نحن خارج الحلبة مجرد متلقين خاملين فقط؟
قال الراوي: هل يعاني السودانيون (الكتاب والمفكرون والنقاد والأدباء والأكاديميون والمؤرخون.. الخ) من فقر معرفي يفصل بينهم وبين هذه الملاحقة والمسابقة في ميداني الكتابة والنشر وبالتالي القراءة والإسهام في رقي الشعوب ورفع نسبة الوعي لديها؟ هل المشكلة تتعلق بأزمة (نشر فقط) كما درج البعض على القول، وإن كانت كذلك لماذا لم يتم (التفكير) في حلول لها عبر الكيانات الفكرية والأدبية والمؤسسات الأكاديمية..الخ.. أم أن المشكلة – كما يصفنا البعض – تتعلق بكسل السوداني وميله للثرثرة والتلقي السلبي أكثر من التحرك صوب الفعل الإيجابي المنتج والفاعل؟
ختم الراوي؛ قال: هل (دق) الحياة اليومي للسودانيين غيبهم عن (دق) الكتابة وإنتاجها؟
استدرك الراوي؛ قال: دقوا ذواتكم يا ناس علها (تنزف) فكرا ومعرفة!