* صارع القضبان والمنافي والغربة وتقلبات الحياة والمرض ليقف كالطود شامخاً في وجه الرياح والأعاصير.. عبقريته الفنية لا خلاف عليها ونبوغه الغنائي لا يقبل القسمة على الجدل فتاريخ الفن السوداني يظل واحداً منقوصاً لا يكتمل إلا به..!!
* المتتبع لروائعه المختلفة، والمتأمل لعزيمته الفولاذية في مواصلة مشواره الفني حتى آخر أيام عمره بالرغم من وصوله لـ(سن الاكتفاء) يدرك حقيقة أن القمم لا تعرف التوقف في (محطات الوصول) وتظل تعطي بلا حساب وتتدفق بلا حد حتى ولو اعتلت سدة عروش المجد..!!
* صادف أول أمس التاسع عشر من يوليو اليوم الذي أبصر فيه الفنان الراحل المقيم محمد وردي النور في عام (1932)؛ وظل بكل تاريخه العامر يقاوم المصاعب طيلة حياته، وينسف العقبات، ويهد المتاريس، ويتغلب على الظروف، ويقاوم عوائق الزمن، ويغني في حفلات جماهيرية عامة بعد تجاوزه السبعين عاماً، ويشارك في كافة الاحتفالات التي تتم دعوته لها رغم ظروفه الصحية، فالرجل كان يكتسب حيوية أنفاسه من تدفق غنائيته، كما أنه ظل مهموماً بالقضايا العامة بمختلف درجاتها وتباين أهميتها لذا لم يكن غريباً عليه الوجود في جوبا لحضور احتفال إعلان دولة جنوب السودان بعد الانفصال بدعوة من حكومتها آنذاك، فقد شارك وردي أشقاءه الجنوبيين فرحتهم بميلاد دولتهم الجديدة بالرغم من الأسى الذي كان يعتصر ضلوعه والغصة التي تطعن في حلقه كنصل سكين حاد..!
* كانت مشاركة وردي أفراح الجنوبيين برفع علم دولتهم الجديدة مثار جدل وتباينت الآراء حولها ما بين رافض ومؤيد، وأذكر أني تجاذبت حينها أطراف الحديث مع فنان أفريقيا، وحاولت استنطاقه صحافياً والتوقف عند وجهة نظره والأسباب التي دفعته للمشاركة في احتفالات جوبا، وكيف يرى الانفصال، والسيناريو المتوقع بعد تلك الأحداث العاصفة..؟؟
* لم ينكر وردي يومها حالة الإحباط التي تلف الجميع إزاراً ورداء على الرغم من فرحة عدد كبير من الجنوبيين بإعلان دولتهم رسمياً قبل حوالي أربع سنوات، ولكنه لم يجد وقتها مبرراً لفرحة بعض الشماليين بانفصال الجنوب، وقال إن (ضبيحة التيران) – في إشارة لما فعله المهندس الطيب مصطفى ورفاقه بمنبر السلام العادل – تمثل قمة الاستفزاز وليس فيها ذرة من الواقعية، فهي سلوك منزوع من كافة القيم الإنسانية والسياسية والسودانية، ودلل على رؤيته تلك بقوله: (انت الليلة جارك لو رحل بتبكي عليه وما بتفرح حتى ولو كان جارك فرحان لانو مشى إلى “بيت ملك”.. حتقول يا حليلو.. والله فقدناهو.. ومافي منطق بخليك تعلن فرحتك بالرحيل)..!!
* لم تذبل أوراق التفاؤل عند محمد وردي برؤية (وطن واحد) على الرغم من إعلان انفصال جنوب السودان رسمياً، ففنان أفريقيا كان يرى أن المستقبل سيعيد (الخريطة) لشكلها القديم، وأن الفرحة التي تسيطر هنا وهناك لن تستمر طويلاً فبعد مرور الوقت سيفكر الطرفان بعقلانية أكثر بعد أن يعيشا الواقع الجديد وستحدث (وحدة ما بعد الانفصال)، ومضى وردي في حديثه قائلاً: (ستنتهي المرارات القديمة والترسبات بمرور الوقت وسيبدأ التفكير في الوحدة من جديد بعد انقضاء فترة الأفراح، و”بس تفك السكرة بتجي الفكرة”..)!!
* الآن وبعد حزمة المتغيرات الأخيرة والنيران التي التهمت أجزاء كبيرة من دولة الجنوب الحبيبة، هل يا ترى تصدق نبوءة وردي ونرى دولة واحدة تضم الجنوب والشمال في (وحدة ما بعد الانفصال) ؟
* استوقفتني يومها دهشة وردي من إعلان بعض الفنانين فرحتهم بالانفصال، وقال إنه لا يوجد فنان حقيقي يتمنى لبلده التجزئة أو يقبل مبدأ التفريق بين الناس لأن ذلك لا يتسق مع رسالية الفن ومفهومها الداعي للحق والخير والجمال، وأضاف فنان أفريقيا: (لا بد للفنانين أن يدركوا تلك الحقيقة ويستوعبوها جيداً ولكن (منو البعلق الجرس في رقبة بوبي)..!!
* طاف بي وردي مساء يوم إعلان دولة حنوب السودان في مواضيع مختلفة قد يراها البعض غير ذات جدوى مع أنها تمثل أس مشاكلنا على الإطلاق، وأكثر نقطة وقف عندها بحسرة كانت عدم استغلالنا لتنوعنا الثقافي بشكل جيد الأمر الذي أسهم في رسم الصورة الانفصالية التي وصلنا إليها، وقال ان هناك عدداً كبيراً من الفنانين لا يعرف (إيقاعات الجنوب) مما أحدث حالة من الغربة الفنية داخل القطر الواحد، وعندما قلت له أريد منك توجيه رسالة لأهل السياسة عن الواقع الذي نعيشه آنذاك والتحديات المقبلة ورؤيته المستقبلية لما ستسفر عنه الفترة القادمة رد قائلاً: (خلي الموضوع دا شوية كدا لأن الرأى الذي يمكن أن يقوله المرء الآن لن يكون موضوعياً مائة بالمائة وسيكون تحت تأثير الحالة الآنية ولكن بعد قراءة الأحداث سيكون الرأي موضوعياً أكثر؛ وستختمر وجهة النظر من خلال تبعات ما حدث الآن).!!
* تلك كانت بعض وقفات مع سيرة (وردي السياسي) المليئة بالاعتقالات والسجون والشعارات و(الشعارات المضادة) في محاولة للتعرف على كيفية قراءته للأحداث وتحليله للوقائع من حوله، أما (وردي الفنان) فسيرته معروفة بل ومحفوظة للجميع فهو من ثوابت أهل السودان الفلكية التي لا خلاف عليها..!
* أخيراً: نأمل ممن سيغنون هذه الأيام في الاحتفالات الخاصة بميلاد الإمبراطور أن يترفقوا يالمستمع ويبعدوا عن التشويه الذي عانينا منه كثيراً في الأعوام الماضية؟ فمن هو في قامة وردي تصبح أعماله الغنائية (منطقة ممنوعة الاقتراب والتعديل)، فالرجاء المحافظة على (الطير المهاجر وبناديها والود وعصافير الخريف) ورفيقاتهن بعيداً عن العبث والتخريب وسوء الترديد (وبلاش تشويه وتنظير)..!!
نفس أخير
* ولنردد خلف محجوب شريف:
حنبيهو البنحلم بيهو يوماتي
وطن شامخ وطن عاتي
وطن خيّر ديمقراطي..!!