أحزاب خاوية ووطن يموت
مُذ ابتدرت النخبة السودانية العمل السياسي المدني المُنظم (مؤتمر الخريجين) وإلى وقت قريب لعله 2010م حين ذهب جنوب البلاد إلى حاله مستقلًا عن الأرجاء الأخرى، ظل الخطاب السياسي على علاته ووهنه وأوهامه متحركًا بكافة تلاوينه الحزبية، ودأبت القوى المدنية والدينية (السلمية) المنخرطة في هذا الفضاء وحتى القوى العنيفة (المسلحة) تتباهى وتُصْعِّرْ خدها لنظرائها بنسبة المثقفين المُنضوين داخل تشكيلاتها وأُطرها التنظيمية، فتجد الإسلامويين يمشون في الأرض مرحين جدًا وهم يتحدثون عن الترابي، والأفندي، وحسن مكي، والعتباني والتجاني عبد القادر، وأمين والخطيب و….. إلى آخر القائمة، فيما اليسار، خاصة الشيوعيين لا يدخرون جهدًا ولا يوفرون مفردة إلاّ وأطلقوها في مديح عبد الخالق ونقد والخاتم والجزولي ومحمد سعيد القدّال وحميد ومحجوب شريف والقائمة تطول، وكذلك الأمة والاتحادي والبعث والحركات المُسلحة تُباهي بقرنق ومنصور خالد وشريف حرير و… ونحتاج لكتاب ضخم لنحصي الأسماء المثقفة والمبدعة التي كانت فاعلة ونشطة في سياق الحزبية.
ولأن الكل يعلم بالضرورة، بأن البِناءْ الديمقراطي الفاعل داخل الأحزاب لن يكتمل إلاّ بمشاركة النُخب المُثقفة، فإن استقطابهم كان أمرًا حيويًا وضروريًا، فما الذي حدث؟ ما الذي تغيَّر الآن حتى يتم لفظهم مباشرة أو التضييق عليهم والتنكيل بهم لإجبارهم على المغادرة (الناعمة)؟
بطبيعة الحال، لا نطلب من هذه الأحزاب (إن وجدت) البحث عن أسباب عزوف وغياب النخب المثقفة عن المشهد السياسي، لأنها معروفة ومعلومة للجميع، فالكابينات التنفيذية لهذه الأحزاب ورغم إدراكها أن مستقبل هذه البلاد رهين بمشاركة النُخب من مثقفين وتكنوفراط ومُفكرين وتقنيين من أجل إحداث تنمية حقيقية في مجتمعنا، وإن استدعاء المثقف إلى دوائرها يؤمِّن الكثير من الإبداع والعطاء والنقد البناء كما يؤمن لها رِئات مُعافاة وغير مثقوبة أو ملوثة وعقولا نيِّرة مُستنيرة ما يجعلها تتنفس وتفكر بعمق وتخطط بروّية ورؤى، لأن الأحزاب تلك تعلم ذلك تمامًا، لكنها تعمد إلى التضييق عليهم ومُحاصرتهم وضربهم تحت الأحزمة وفوقها لإجبارهم على المُغادرة .
والحال كذلك، فإننا لا ندخر جهدًا في مطالبة الأحزاب بضرورة إعادة هيكلة (نفسها) من جديد بالعمل على إقصاء وإبعاد السماسرة والانتهازيين والمنتفعين والرجرجة عبر تحسين الأداء السياسي والديموقراطي ما يفتح شهيِّة النخب المثقفة بالعودة إلى الساحة التي زهدت فيها فأخلتها أو أقصيت عنها.
إلى ذلك فالناظر إلى الأحزاب السياسية السودانية (الراهنة) لا يجد بين عضويتها إلا (الهتيفة والضليلة) وذوي الحناجر القوِّية والألسنة الطويلة، وهذا ما تريده قيادات تلك الأحزاب كي تبقى على سُداتها إلى حين مغادرتها إلى أحمد شرفي أو فاروق، لكن ماذا حدث نتيجة لذلك؟، لربما لن نكون مهولين إذا قلنا (موت وطن) بأكمله.