عبد الله الشيخ : (لا حارِسنا، ولا فارِسنا )..!

الثلاثاء, 19 يوليو 2016 08:39 أعمدة الكتاب – خط الاستواء – عبد الله الشيخ إرسال إلى صديق طباعة PDF
كان يوم 19 يوليو 1971 يوم عيد في حلة حمور.. تلك القرية الصغيرة التي تزحف على بيوتها الرمال، كانت مُعبأة تماماً ضد مايو وضد النميري.. في يوم انقلاب هاشم العطا كان أهلي يتحلقون حول الراديوهات، وبعضهم ينزع من رأسه العمامة ويؤشر بها، يلولح بها، ويقول: (عَفيت منو، هاشم العطا .. قَلَبا ضُحى ونُصَتْ نَهار)..!
ما زالت ذاكرة الصبا تحفظ أسماء أولئك المناضلين، ولربما لا يرغبون في إيراد أسمائهم هنا..إذ لا فرق بين مايو الأولى، ومايو الثانية، إن لم تكن مايو الأولى (مبلوعة) نوعاً ما..! كنا درافين صغار، نضحك ونحن نسمع تعليقات ساخرة ضد الحكومة، وضد النميري ..وصلتنا حكايات، عن أنه كان طيش المدرسة في حنتوب.. وحدث أن جاءنا(طيش حنتوب) مرةً على الباخرة كربكان، ورسِىّ على محطة الغابة.. كنا نسمع أزيز مايكرفوناته في الضفة الغربية، حتى وقفت الباخرة قُبالتنا.. فقد أراد النميري أن يزف التحية لأهالي حمور، الذين تراصوا فوق ضفة النيل الشرقية.. واقفين (دَلَمْ)..لا هتافات ولا لافِتات.. إلا أن هناك إمراة جاهلة (داقسة) كانت تزغرد بين الفينة والأخرى .. ما زالت زغرودتها الشاذة ترن في أذني رغم طول السنين، ويمكن أن أحددها بالاسم..!
هدأت محركات الباخرة كربكان عند مُشرع حلة حمور ولم ترسُ.. وبرز النميري ملوحاً بكِلتا يديه، بينما الغالبية من أهالي حمور فوق الحمير، خالفين رجل على رجل..! تلك اللحظة اذكرها جيداً.. كان مايكرفون كربكان يبث أغاني في تمجيد النميري..(جِبت الموية للعطشان، جِبت اللُّقمة للجعان).. وكنت أنا أسمع تعليقات من خلفي تقول: (حِكمتو بالغة..الزول ده وارِمْ كدِي مالو..؟ التّقول قاعد يأكل مع العَمايا)..!؟ ويقول آخر معلقاً على غناء سيد خليفة، أو أبو داؤود لمايو: ( الله خلقني، ما شُفْتَ لي راجل، يغني لي راجل)..!! ولكن التعليق الساخر الذي أحفظه من تلك الأيام، فقد جاء على لسان أستاذي- أنصاري التوجه- الذي قال للناس، والنميري ما زال يلوح بيديه: ( يا ناس، أكان عِندكم شَغلة أمشوا أقضوها.. أكان عندكم بهايم أمشو أرعوها ..الراجِل ممّا يكون عَدْروج، ودقنوسو زي الطاسة، ومُدغلْبْ من نُصو .. أقنعوا من خيراً فيهو)..!
بهذا المزاج المُعارض استقبلت قريتي- حمور- نبأ إنقلاب هاشم العطا .. كانت الأيام الثلاثة أيام عيد وفرح.. إحتفينا ونحن أطفال، باشتراكية لا نعرف عنها شيئاً، وبانقلاب لا نعرف مكانه، فنحن لم نكن نعرف الخرطوم، ولا نفهم ماهي الحكومة، ولا نعرف هاشم العطا ولا فاروق حمدا الله، ولا بابكر النور، ولكن سمعنا من مجالس الكبار أن عدداً لا بأس به من أولاد حلتنا، قد حُظى بشرف المشاركة في الإنقلاب ضد النميري، منهم دكتور محمد حمور الذي نجا من الإعدام ولجأ إلى لندن .. ومنهم خالي يوسف محمد سيد أحمد الذي ساح في السجون ما بين كوبر وشالا ..حفِظنا عن ظهر قلب، نشيد وردي :(لا حارسنا ، ولا فارسنا.. إنت كديسةً تخربشنا)..! .. ولكن، بعد اليوم الثالث تحولت تجمعات الحِلة البهيجة إلى بِكيات.. جاءت بعض النسوة ببكاء مُر مع أمي وقلن لها إن النميري أعدم الشفيع.. كن يعتقدن أن النميري أعدم أخي مباشرة، وضللهن تشابه الأسماء.. وبعد قليل إنكسرت علينا الوفود باكية ومتسائلة عن أخبار يوسف.. وبدأت الدعاية المضادة ، وكانت اذاعة أم درمان تتوعد كل من يأوي الشيوعيين ولا يبلغ عنهم .. وكنا نسمع أهلنا يلوون ألسنتهم و يحاكون النميري…(أضربوهم)..!! يقولونها باستهزاء مُبالغٌ فيه، مع سيل من الشتائم المُبتكرة..!
وبدأت دعاية مايو المضادة .. رغم التخويف ونحن درافين صغار،، كنا نعرف أن (فطور البوغة، المربوط بالفوطة) ما كان يذهب للترابلة في التحتانية، بل كان يذهب لمناضلين قضوا أياماً (جُوَّه المريق)،، داخل حقول الذُرة في الساب ..وكنا نعلم أن البيوت تستقبل ضيوفاً ومَخالي..لا تكهرب الجو أكثر، لكن تجمعات أهل الحِلة كانت على حالها .. كانوا يثرثرون بأحاديث لا نفهمها، ويتناقلون روايات عن طائرة وقعت، وأخرى تم اختطافها، وعن رجال قالدوا الموت بثبات.. أذكر جيداً، في تلك الأيام المتجاسرة ، رُزِق ود أحمد رابه، صاحب الشجرة الظليلة فوق المُشرع بطفل، وحلف بالطلاق في السماية أن يسميه على)عبد الخالق).. وما زال ود أحمد رابه يقول: (أنا سميتو على راجل ضكر ..راجل ما بيخاف الموت)..!
لا أعرف ..متى ، وكيف، نَبَتَ الوعي في حِلة حمور، تلك القرية الصغيرة، التي تزحف على بيوتها الرمال..!

Exit mobile version