“النوير” ثانية القبائل الكبرى عدديا في جنوب السودان؛ توصف بأنها “أشرس البشر” على ظهر الأرض، وتمتلك أساطير شعبية “شبه مقدسة”. تؤدي دورا كبيرا في المشهد السياسي والعسكري في البلاد، وتخوض صراعا ساخنا مع قبيلة الدينكا ذات النفوذ السلطوي الواسع والتي تنتمي معها إلى أصل سلالي واحد.
المجال الجغرافي
تسكن عشائر النوير في أماكن متفرقة من جمهورية جنوب السودان على شكل تجمعات بشرية تتكون من قرى ومعسكرات، لكن فضاءها الجغرافي يقع أساسا في تجمعين رئيسيين أحدهما في الشرق بحوض “نهر سوباط” (ولاية النيل الأعلى)، والثاني في الغرب بمنطقة “غرب النوير” التي تشكل كامل مساحة ولاية الوحدة الغنية النفطية وعاصمتها “بانتيو”.
وللنوير حضور قوي في ولاية جونقلي وتمتد بعض مناطقها إلى داخل حدود الحبشة. وتكثر المستنقعات في هذا الفضاء الجغرافي الممتد، مما زاد عزلة القبيلة وعزز نزوعها الاستقلالي وزاد صعوبة اختراق مناطقها. ومن مناطقها أيضا الجزء الأسفل من بحر الجبل وبحر الغزال.
ويحتل النوير المرتبة الثانية بعد الدينكا من حيث التعداد السكاني (عددهم حوالي مليونيْ نسمة)، ويمتازون بأن لهم لهجة واحدة وأسلوبا في الحياة متشابها إلى حد بعيد، ومن خصائصهم الاعتزاز بالنفس والإحساس بـ”تفوق” قبيلتهم التي يعدونها أعلى من القبائل الأخرى. ومع ذلك يحق لكل نويري أن يترك قبيلته ويستقر في قبيلة جديدة يصبح عضوا فيها.
الأصل السلالي
يذهب علماء السلالات إلى أن القبائل الثلاث الكبرى في جنوب السودان المنضوية في ما يسمى “المجموعة النيلية” (الدينكا والنوير والشلك) تنتمي إلى جد واحد، يجمعها دون المجموعتين الأخريين في جنوب السودان وهما “المجموعة النيلية الحامية” و”المجموعة السودانية”.
ويقول الباحث مبروك بوطقوقة في بحث له بعنوان “شعب النوير.. رؤية أنثروبولوجية” إن أساطير النوير شبه المقدسة لديهم تحكي أن جدهم الأكبر “لانجور” قد عبر النيل الأبيض عند منطقة “فشودة”، ثم سار بهم إلى شرق ملكال حيث استقر بهم المقام هناك، وهم ينحدرون أصلا من الجد “إبينوينق” شقيق “دينق” الذي هو جد الدينكا.
وعلى مستوى الصفات الطبيعية؛ يتميز النوير بخصائص تميزهم عن غيرهم، منها الرأس المستطيل، والأنف الأفطس، والشفاه الغليظة المقلوبة التي تميل إلى التفلطح، وبشرة أجسادهم فاتحة قليلا عن الشلك والدينكا. أما الشعر فلونه أسود وملمسه خشن، وقامات الذكور طويلة نحيلة، والنساء أقصر وأقل وزنا.
يتحدث النوير بلهجة واحدة وأسلوبهم في الحياة موحد. ورغم أن الباحثين في شؤون هذه القبيلة يؤكدون أنه لا يوجد تنظيم سياسي مشترك ولا إدارة مركزية لها، فإنهم يقرون بأن هناك قانونا أخلاقيا داخل القبيلة وآلية لفض النزاعات واحتوائها.
التقاليد المجتمعية
يوصف النوير بأنهم متشددون في عاداتهم وتقاليدهم الاجتماعية، وسلسلة النسب لديهم أبوية بامتياز إذ ينتظمون في نسقهم القرابى إما بالزواج أو بالتبني. ومن التقاليد الاجتماعية لدى قبيلة النوير أن أبناءهم لا يتزوجون من الأقارب ولا من أقارب الزوجة إلا بعد موتها، وهم غير مقيدين بعدد من الزوجات بل يكون ذلك حسب الاستطاعة، فقد يصل أحيانا إلى 15 زوجة.
وفي العادة يدفع العريس للعروس مهرها أربعين بقرة توزع على أقاربها، فيعطون عشرا منها لوالد العروس وعشرا أخرى لوالدتها وعشرا لأقارب الأب وعشرا لأقارب الأم، ومن لا يملك بقرا فهو من الفقراء فيدفع له أهله وأصدقاؤه البقر كمهر لأهل العروس، ويُرجع أهلها جزءا من هذه الأبقار إلى بيت الزوجة.
وتحلق العروس عادة رأسها في ليلة الزفاف لتصبح صلعاء دلالة على ميلادها من جديد وبدء مرحلة جديدة في حياتها، كما يدل ذلك على خلو رأسها من العيوب والتشوهات وأن العريس تسلمها كما ولدتها أمها بلا شعر.
ويحق للابن الأكبر عندما يموت أبوه أن يعتبر كل زوجات أبيه زوجات له إلا أمه، وإذا توفي شخص قبل أن يتزوج فيمكن لأخيه أن يتزوج امرأة باسمه وعند الإنجاب ينسب الأولاد لأخيه المتوفى. وهم لا يتنازلون أبدا عن “الشلوخ” (ستة جروح في الوجه) وقلع الأسنان الأمامية ولا يعتبر الرجل كامل الرجولة إلا بعد أن “يشلخ” ويقلع أسنانه.
تعتبر النوير حرفة الرعي أشرف مهنة يمكن للإنسان أن يمارسها ويحتقرون ما سواها من الأعمال، وتعتمد القبيلة في معيشتها على تربية الماشية وخاصة البقر الذي يرتقي عندهم إلى مقام الإنسان فلا يُركب ولا يُذبح، وتدور عليه حياتهم الاجتماعية كلها ويعتبر أهم عناصر الثروة لديهم، وله مكانة كبيرة في غذائهم الذي يتضمن دائما اللبن والدم.
ومن عادات النوير شيوع التدخين بين الرجال والنساء، وامتلاك أبنائها مهارات قتال عالية منعتهم قديما من الخضوع لاسترقاق الآخرين، لكنها مع ذلك تعتمد تقليدا اجتماعيا لمحاربة الضغينة بآلية تعرف بـ”زعيم جلد النمر”، وهو شخص متخصص ينتمي إلى مجموعة نسب معينة يُعهد إليها -وفق طقوس محددة- بإقامة فعاليات اجتماعية مختلفة في حياة النوير.
وتبرز أهمية هذا التقليد عندما يُقتل شخص ما، إذ على القاتل أن يتوجه فورا إلى “الزعيم” فيقوم الأخير بجرح يده حتى يسيل الدم ثم يبقى في منزل الزعيم لأنه “مكان مقدس” لدى القبيلة ولا يمكن هتك حرمته، وعلى “الزعيم” أن ينتزع من أقرباء القاتل وعدا بدفع تعويض لتجنب الثأر، ويقنع أقرباء القتيل بأن عليهم قبول التعويض.
وفي مايو/أيار 2009 احتفل أبناء قبيلة النوير -يتقدمهم زعيمهم السياسي رياك مشار- في جوبا عاصمة جنوب السودان بعودة عصا تسمى “دانق” كان يستعملها كاهن القبيلة “نقون دينق” في طقوسه، وأخذتها قوات المستعمر البريطاني عام 1929 من مقر الكاهن بالقرب من قرية “وات”، بعد هزيمة النوير في حرب بين الطرفين. وكان “غليون الكاهن وطبلته” أعيدا بالفعل قبل ذلك من بريطانيا إلى منطقة النوير.
وتنظر القبيلة إلى هذه العصا -المصنوعة من جذور شجرة تمر هندي والمزينة بأسلاك النحاس- باعتبارها رمزا لقوتها القبلية في المنطقة، إذ كان دينق -وفق ما يدعيه أتباعه- يتمتع بـ”طاقة روحية هائلة”، وقد استخدم أغاني وطقوسا للدعوة إلى إنهاء العنف القبلي بالجنوب، وتنبأ بأن زعيما من قبيلة النوير سيحكم جنوب السودان مستقلا.
التاريخ والسياسة
يعتقد “النوير” أن تاريخهم يبدأ من منطقة “ليج” المقدسة لديهم لكونها شهدت نشأة جميع فصائل شعب النوير ثم تفرقوا منها إلى جميع مناطقهم الحالية في الشرق والغرب، واحتكوا بدرجات متفاوتة بشعوب العرب وقبائل جبال النوبة وبمملكة الشلك القوية، ودخلوا في علاقات معها كانت على الدوام عدائية الطابع.
وفي النصف الأول من القرن التاسع عشر الميلادي تدفقت موجات من شعب النوير من موطنها إلى الضفة الغربية للنيل مجتاحة أرض الدينكا، مما أشعل فتيل احتراب بين الشعبين لا يزال مستمرا حتى الآن. ورغم وصول قبائل عرب شمال السودان إلى أراضي النوير في فترات مختلفة؛ فإنهم لم يتركون تأثيرا ملحوظا على مجتمعاتها التي قاومت بشدة الحكم المصري للمنطقة.
وإثر قدوم الاستعمار البريطاني إلى السودان استقبلته النوير بمعارضة قوية رافضة “حكم البيض”، لكن البريطانيين أخضعوا هذه القبيلة القوية لإدارتهم الصارمة بعمليات عسكرية عُرفت بـ”حرب النوير” وتمت خلال 1928-1930.
وقد استخدم البريطانيون في هذه الحرب الطائرات والدبابات مقابل سلاح النوير المتمثل في السهام والحراب، فقتلوا أعدادا كبيرة من النوير واعتقلوا زعيمها “دوال ديو”.
وبعد استقل السودان عام 1956 جرت حروب طويلة في جنوبي البلاد، أشهرها وأشرسها تلك التي دارت رحاها خلال 1983-2005، وتزعمتها أساسا قبيلة الدينكا التي ينتمي إليها جون قرنق زعيم “الحركة الشعبية لتحرير السودان”.
وانخرطت فيها قبيلة النوير بانضمام رياك مشار إلى هذه الحركة الانفصالية عام 1984، وبقيادته دخلت النوير طوال العقود الثلاثة التالية في مسيرة حافلة بعمليات التحالف والانشقاق وإعادة التحالف مع رفاقه وخصومه على حد سواء.
فقد آزرت النوير ابنها مشار انشق عام 1991 عن الحركة الشعبية إثر خلاف بينه وبين قرنق، وأسس -مع منشقين آخرين- ما عرف بـ”الحركة الشعبية لتحرير السودان-مجموعة الناصر” (نسبة إلى مدينة الناصر في جبال النوبة)، وخاض مع حركة قرنق معارك طاحنة خلال السنوات اللاحقة، أشهرها “مذبحة بور” التي قتلت فيها قوات مشار قرابة ألفين من قبيلة الدينكا معظمهم من المدنيين.
ومنذ توقيع اتفاق السلام بين الشمال والجنوب عام 2005 الذي أنهى واحدا من أطول وأفظع الصراعات في أفريقيا (قـُتل فيه نحو مليونيْ شخص ونزح نحو أربعة ملايين)؛ ابتلي جنوب السودان بغارات متبادلة بين النوير وجيرانها من القبائل الأخرى -خاصة الدينكا والمورلي- قتل فيها الآلاف من كافة الأطراف.
ولم تنته هذه الصراعات -التي تتفاوت أسبابها بين النزاع على قطعان الماشية ومنافع السلطة- بحصول الجنوب على استقلاله بانفصاله عن الشمال عام 2011.
فحين تحولت في ديسمبر/كانون الأول 2013 الأزمة السياسية بين رئيس البلاد سلفاكير ميارديت ونائبه رياك مشار إلى صراع مسلح؛ وصف كثير من المراقبين أسبابه بأنها “عرقية” لتذمر النوير من سيطرة قبيلة الدينكا على جميع الأمور، رغم أن رئيسة بعثة الأمم المتحدة في البلاد هيلد جونسون أكدت آنذاك أن الأزمة “سياسية وليست عرقية”.
ورغم إبرام صلح بين الرجلين عام 2015 برعاية دولية؛ فإن الصراع المسلح تجدد بينهما -وبين قبيلتيهما القويتين من ورائهما- في عاصمة البلاد جوبا خلال الأسبوع الأول من يوليو/تموز 2016، واستخدِمت خلاله الأسلحة الثقيلة مما أدى إلى سقوط نحو ثلاثمئة قتيل. وهو ما برهن مجددا على أن سلطة الدولة ما زالت أقل شأنا من الولاءات القبلية.
المصدر : الجزيرة, مواقع إلكترونية