يقولون إن الفتنة نائمة؛ والمقصود أن أسباب الخصام دائما موجودة لكنها تظل كامنة كالجن المارد في قمقمه، فإن أقدم شقي على إيقاظ الفتنة أو العبث بغطاء القمقم فيخرج الجني فسينقلب الهدوء والسكينة إلى فوضى لا تبقي ولا تذر. فمن أيقظ الفتنة القبلية في جنوب السودان فسالت الدماء والدموع أنهارا؟
تتميز دولة جنوب السودان بفسيفساء قبلية شديدة التعقيد؛ فتعداد السكان البالغ نحو (10) ملايين نسمة يتألف من (60) مجموعة قبلية أكبرها مجموعة (الدينكا) التي ينتمي إليها رئيس الدولة سلفا كير ميارديت، ويبلغ تعدادها نحو (4) ملايين نسمة فهم يشكلون (40%) من مجمل تعداد السكان، وهي من كبريات القبائل الإفريقية. وتأتي قبيلة النوير والتي ينتمي إليها رياك مشار النائب الأول لرئيس الدولة، في المرتبة الثانية من حيث التعداد إذ يبلغ تعدادها نحو مليون نسمة. والصراع بين القبيلتين صراع ليس بالجديد بل هو صراع زعامة على الأرض والموارد له امتدادات تاريخية. وأسهم وجود الجنوب ضمن السودان الموحد قبل الانفصال في 2011 في الحيلولة دون تفجر الصراع القبلي، ويشبه الجنوبيون وجود أشقائهم في الشمال بينهم في السابق بالفلين الذي يعزل ألواح الزجاج عن بعضها البعض فلا تصطدم ببعضها فتتهشم.
اليوم يشعر المواطنون الجنوبيون بخيبة أمل عظيمة جراء الاقتتال القبلي الذي اندلع بعد عامين من الاستقلال عن الشمال ليتوقف لبضعة أشهر إثر اتفاق سلام هش عاد بموجبه زعيم التمرد ابن قبيلة النوير نائبا لرئيس الدولة مرة أخرى. لكن الأسبوع الماضي قام جنود سلفا بمحاولة نزع سلاح الضباط النوير في القصر الجمهوري فتجدد الاقتتال وهذه المرة داخل عاصمة البلاد جوبا ليسقط مئات القتلى ويختفي مشار ثانية في الأحراش لتعود البلاد لمربع الحرب الخبيثة مع حلول الذكرى الخامسة لاستقلال أحدث دولة في العالم.
في العام الماضي وقد كانت الأوضاع الأمنية أفضل حالا كتب أحد المثقفين الجنوبيين اسمه كول لام دينق في صفحته بالفيس بوك يقول ساخرا: “بمناسبة الذكرى الرابعة للاستقلال أتقدم بالشكر أجزله للحركة الشعبية – الحزب الحاكم – التي مكنتنا قبل أن نموت من رؤية المآسي ونتذكر أننا كنا في رحاب السودان الموحد في بحبوحة من العيش، فقد درسنا في أفضل جامعات الشمال وفضلونا على طلاب الشمال باعتبار أننا من المناطق الأقل نموا ونلنا من بعد ذلك أعلى الوظائف في الدولة فكان منا نائب الرئيس. وكنا نحصل على حقنا كاملا في الخطط الإسكانية بالعاصمة الخرطوم لا فرق بيننا وبين إخوتنا في الشمال”.
المعركة الدائرة حاليا في عاصمة جنوب السودان بين القوات الموالية للرئيس سلفاكير ونائبه مشار لا تشبه سابقاتها، لأنها تتخذ من العاصمة جوبا مسرحا للعمليات، مما أفزع البعثات الدبلوماسية وتدافع أفرادها لأول مرة منذ الهروب والنفاذ بجلدهم.
في البداية راعى نظام الحكم الوليد التركيبة القبلية، وينص دستور البلاد على أن نظام الحكم نظام (رئاسي، جمهورية فيدرالية، ديمقراطية تمثيلية). وعليه فقد تواضعت النُخبة الحاكمة وهي الحركة الشعبية التي تضم كل قبائل البلاد تقريبا على أن يكون رئيس البلاد من قبيلة الدينكا ونائبه من قبيلة النوير فيما يتم تقسيم السلطة على القبائل الأخرى بنسب تراعي أوزانها القبلية. وهذا يشبه ما يعرف بالديمقراطية التوافقية كما هو حاصل في لبنان.
لقد ساد إفريقيا ما قبل الاستعمار نمطان أساسيان للسلطة والحكم: النمط الأول؛ قبائل ذات كيانات متعددة بنظم سياسية مختلفة تحكم نفسها بنفسها. أما النمط الثاني؛ قبائل تخضع لحكم أو حماية قبائل أخرى، سواء طوعًا أو كرهًا. بعد الاستعمار أصبحت الانقلابات العسكرية الآلية الرئيسية لانتقال وتبادل السلطة في إفريقيا. وبالطبع لا يمكن الجزم بأن النظم السياسية التقليدية في إفريقيا ما قبل الاستعمار كانت نظمًا ديمقراطية بالمفهوم الغربي الحديث، لكنها كانت ملائمة على الأقل لطبيعة القارة ولم ينتج عنها إشكاليات تذكر.
تعتبر الخرطوم في ورطة حقيقية جراء الأحداث المتصاعدة في جنوب السودان؛ إذ لاشك أن آثارًا مدمرة ستخيم عليه في حالة استمرار الصراع في الجنوب الذي يرتبط مع الخرطوم بحدود طويلة جدًا تبلغ نحو (1800) كيلو متر، وهي حدود تتداخل فيها القبائل على نحو شديد التعقيد، وبالتالي فإن قيام حرب أهلية في الجنوب يعني تدفق اللاجئين شمالًا وكذلك تدفق السلاح ويصب ذلك الزيت على نار التمردات القائمة أصلا. كذلك ستتضرر التجارة الحدودية حيث يصدر السودان أكثر من (175) سلعة إلى دولة الجنوب، فضلا عن فقدان السودان لعائدات مرور بترول الجنوب عبر خط الأنابيب الذي ينتهي في أقصى شمال شرق السودان على البحر الأحمر.