اعتذار معلن

تزدحم في الذاكرة الأحداث والروايات والشخوص والتاريخ الحديث والقديم.. وتفعل سنوات العمر فعلتها في مخيلة من كان قدره الكتابة اليومية.. يخطئ ويصيب، وتلك هي أقدارنا منذ الخلق والتكوين، حيث خلق الإنسان جهولاً.. في خضم الأحداث تسقط من الذاكرة معلومة وتغيب أخرى.. وذلك ما حدث في زاويتي عدد (الأربعاء) الماضي في سياق قراءة مشهد فصل الدكتور “الشفيع خضر” من الحزب الشيوعي واستدعاء التاريخ القريب والبعيد لثوريين وعقائديين ضاقت بهم عباءة التنظيمات فخرجوا منها.. أو عنها.. بفواجع ومرارات في النفوس وصلت مرحلة الانصراف عن الحياة، كما حدث للشاعر “ِشيبون” الأستاذ بمدرسة رفاعة وزميل دراسة وكفاح في الحزب الشيوعي لـ”صلاح أحمد إبراهيم” والذي رثاه في ديوانه غضبة الهبباي وعلق دمه في عنق “عبد الخالق محجوب” الذي بينه و”صلاح” أخو “فاطمة” ما جعل “صلاح” يكتب حتى عن خدود “عبد الخالق” وقد أخطأت في مقالتي وأنا أنسب الموت انتحاراً لشاعر مات في فراش المرض.
الاعتذار أولاً للقراء ولأسرة الشاعر الفذ “علي عبد القيوم” الصغيرة والممتدة وأبنائه وبناته.. انتحر بسنان قلمي خطأ و”علي عبد القيوم” الراحل في مرقده تناله حسنة وتكتب لقلمي سيئة، فكيف يبلغك اعتذاري يا صاحب أغنية “وردي” الشهيرة (عويناتك).. وصاحب أول نشيد لمايو ورفيق درب صديقيّ “عبد الباسط سبدرات” و”كامل عبد الماجد” اللذين وضعا أساس مدرسة أبادماك الأدبية، فكيف ينتحر من كان اشتراكياً بالثقافة وصهر آل الخليفة “عبد الله التعايشي” وسليل أسرة “أبو العائلة” والفريق “إبراهيم الرشيد” لهم العتبى جميعاً وكامل التقدير والاعتذار، وقد اختلطت على ذاكرتي واقعة انتحار شاعر آخر هو “عبد الرحيم أبو ذكرى” الذي سقط من شقته في موسكو ورحل عن الدنيا، وكانت فجيعة صديقه ورفيق دربه وشريكه في الغرفة الواحدة “كمال الجزولي” قد دفعته ليكتب عنه في رزمانته الشهيرة.. ويجعل من ذلك الموت البشع بطولة وموقفاً فكرياً من الحياة حينما تصبح زهيدة في نظر الذين استيأس منها.
وحقبة الستينيات والسبعينيات ثرية جداً بشعرائها وأدبائها قبل أن تغشى بلادنا نوائب الدهر.. ويتمزق الوطن ويصبح الشعراء ينتظرون صراف مال الإذاعة والتلفزيون لنيل حوافز هي نفسها امتهان لكرامة الإنسان.. ومدارس الشعر الحديث في السبعينيات التي كان “علي عبد القيوم” من روادها وكذلك “سبدرات” و”كامل عبد الماجد” حينما نجحت مايو الاشتراكية ومايو الوطنية في إقناعهم بجدواها.. أثرى هؤلاء الساحة وكانت مهرجانات الثقافة والغناء والإبداع وحتى كرة القدم.. لأن وزارة الثقافة كان على بوابتها “عمر الحاج موسى” وعلى أبواب التلفزيون “علي شمو” وفي الإذاعة “محمود أبو العزائم”.
قطار العمر قصير.. ورحلة الحياة نابضة بكل المعاني، ولكن قصة رحيل وانتحار الشاعر “عبد الرحيم أبو ذكرى” حفرت في نفسي أسى عميقاً خاصة حينما يموت أو ينتحر مفكر وشاعر بعيد عن عشيرته وتراب وطنه.. وقد كتب “كمال الجزولي” عن ذلك الانتحار المفجع.. ولكن لم يكتب غير “صلاح أحمد إبراهيم” عن انتحار “شيبون” في غرفته.. لأن الحزب الشيوعي حينذاك كان كابوساً مرعباً.. إلا لأمثال “صلاح أحمد إبراهيم” الذي خرج من عباءة الحزب وضيق التنظيم مثل خروج “الخاتم عدلان” في السنوات الأخيرة ومثل خروج “الأفندي” من التيار الإسلامي.. واستقالة اللواء “الهادي بشرى” عن تحالف التجمع الوطني الديمقراطي.. والآن فقط.. يصبح “الشفيع خضر” يمشي بلا قيود.. ويفكر دون رقيب داخلي.. والأحزاب العقائدية تضيق كثيراً بمنسوبيها.. وقد غيّب الموت في رمضان الماضي المفكر العروبي “محمد علي جادين” وهو بعيد عن حزب البعث الذي يولي وجهه شطر بغداد.. لكن اعتذارنا المعلن لـ”علي عبد القيوم” قد لا يكفي قبل تناول سيرته ورحلته في دنيا الاغتراب وقصائده التي لم تنشر بعد كما يقول سيد الاسم “كامل عبد الماجد”.

Exit mobile version