(أ) كان محدثنا قد بلغ من عمره منتصف الثمانين، كأنه يمشي على لوح من الجمر والسراب، يظن انه لا يزال كالسهم يمضي في فضاء الحياة ودروبها يضج بالأمنيات على جنبيه يشتعل اللهب، يخونه جسمه الهرم الذي تعب في مراد النفس الكبيرة، تجاعيد وجهه ورقبته وسائر جلده اشبه ما تكون بأخاديد السأم المرتسمة في نفوس الفاشلين ..! لكن من أين تنبع دفقات الحياة الفياضة في روحه ودمه وشرايينه وخلاياه، وقد خرط من عمره زاهي السنوات وأنضرها من وقت طويل، ولم يستسلم لخريف العمر الذي داهمه، كأنه يتحدى الايام والزمن والعمر وحقائق الاشياء .. يبس الجلد على العظام، تغورت العينان في حجريهما، وانطفأ وهج الوجه القديم، وخفت بريق الكلمات الواثقات، فقد كانت كل كلمة شماء عنده كطريدة دهر ردها إلى مراحها وسِربها، تثاقلت الخطى والرجاءات، وتثاءبت الكلمات على الشفتين الجافتين كأنها في خدرها نؤوم ضحى ذات خلخال .. لكن ثمة مضغة في جوفه تأبت على الزمن، وتمردت على العمر، وأشاحت بوجهها عن الضفة الاخرى التي كانت بانتظارها.. كان يحكي وحنجرته تصدر صوتاً كخرير جدول صخري مخنوق، عميقا يأتي الصوت، وبعيداً يرمي ظل الخيال، كأنه عاش ألف سنة، يتصور الدنيا والناس والحياة كأنها لم تبدأ بعد، ولا شيء يشبه تلك الانتظارات الواثقة في عينيه المرهقتين وهو يرتجي أملاً كبحت جماحه الأقدار فحبسته بعيداً تفصله عنه آلاف السنوات الضوئية .. (ب) صاغ افكاره وآراءه من عالم هلامي يتدفق بصعوبة وبطء لا يحسب بالزمن ككعكول الصمغ على لحاء شجرة الهشاب الشابة، كانت الشجرة خضراء لينة لم يمسسها بشر من قبل، أغصانها مخضرة يانعة، ساقها كحق العاج مستقيم يميل الى الاحمرار كغيرها من سيقان شجيرات الهشاب والطلح، تلامس الشمس أغصانها كما ضفائر غيداء في بادية البقارة سال الدهن على ضفيرتها وتلامع على جانبي رقبتها تحت اذنيها زاحمه قرط جميل يلهث متدلياً من العنق الطويل .. كان يستضاء برأيه وفكره عند كل محاق، ففي طلعة البدر ما يغني عن زحل، لكن الناس في مدينتنا يملأون سلال الأنس والمفاكهة من أحاديث الجنون التي يليقها تحت قبة الضياء لا في أوقات الظلام، ويقول حفيده ان جده له خطرات تفضح الناس والكتبا، كما صدح المتنبي عن سيف الدولة الحمداني، كان ينظر للأفق البعيد دائماً ويتحدث عن اشياء لم تقع بعد وعن رحم الغيب الذي ستولد منه الأعاجيب!! مثل الأساطير المتزاحمة على أرفف التاريخ، ربما كان هو، فلت منها وحط على ايامنا، ونحن شباب غض، نحمل كراستنا للمذاكرة وكتبنا للمراجعة في المرحلة الثانوية واقدامنا نغرسها في رمال وادي نيالا نقطعه جيئة وذهاباً، وصدى قصيد محزون لصلاح احمد ابراهيم يرن في أسماعنا: يا ذكيّ العودِ بالمِطرقة الصّماء والفأسِ تشظى وبنيران لها ألفُ لسانٍ قد تلظّى .. ضُعْ على ضُوئِك في الناسِ اصطباراً ومآثرْ مثلما ضوّع في الأهوال صبراً آلُ ياسر فلئن كنت كما أنت عبِق فاحترقْ ……. في غدٍ يعرف عنّا القادمون أي حب قد حملناه لهُم في غدٍ يحسِبُ فيهم حاسِبُون كم أيادٍ قُدّمت منا لهُم في غدٍ يحكون عن أنّاتنا وعن الآلام في أبياتِنا وعن الجُرحِ الذي غنّى لهم وكل جُرحٍ في حنايانا يهون حين يغدو مُلهِماً يُوحي لَهُم جُرحُنا دامٍ ونحن الصامتون حزننا جمٌ ونحن الصابرون فابطُشي ما شئتِ فينا يا مَنُون كم فتىً في مكة يَشبه حمزة ..؟ (ت) كنا على ساحة جرداء من الكلام والخيال والمفردات، لكن الشيخ الثمانيني، لا يزال يرى وراء تلك الحجب، وحفيده يحكي له ويحكي عنه، لكنه لا يلبث إلا وخرير الجدول الصخري بعمق ينطلق، يحدثنا عن العاصفة الهوجاء التي أتت على كل شيء إلا هو، ويقول : كنت صغيراً عندما كان القوم هنا ما بعد المهدية في غليان وجور وظلم، وكانت هذه المناطق كلها قبل أن يستتب الأمر للسلطان علي دينار في الفاشر، وكان سلطان دار مساليت يقاوم الفرنسيين، والأرض تحتنا تئن من الدماء ومسفوح الدموع وكثير من الناس قد قتلوا وذهبوا واستشهدوا، وقضى نفر عزيز في العودة من ام درمان ديار الاهل في الغرب، كل شيء كان موجعاً ممتلئاً بالذكريات المرة والآلام التي لا تنتهي محفورة في الافئدة مغروسة في الارواح .. ويقول: ألقيت ذات ضحى بئيس وأنين النساء لا ينقطع عن زوج شهيد او اخ فقيد، تركوني وانا طفل فوق فرش عبارة عن برش من السعف مقوس للشكل حشوه بخرق وقماش مهترئ هو بقايا ثياب قطنية خشنة، كانت هناك طيور تحوم حولنا لان حصان نافق كان هناك، ورائحة حطب يحترق تملأ المكان، خلاء موحش ونفوس كساها الحزن، الكل يتكور على نفسه والآفاق تضج بالمرثيات . جاء في ذلك الضحى رجل قادم من اقصى بلاد الله يرتدي جبة سوداء وعمامة باهتة اللون مكحل العينين له لحية خفيفة كسحابة رقطاء وينتعل خفاً من جلد الغنم المدبوغ، لا أحد يعلم من أين أتى ..؟ صاح في اهلنا البسطاء المتجمعين امامه كما قال لقرية مجاورة ولفريق رحل قريب، (هذا آخر الزمان .. اتركوا الدنيا واستعدوا) ثم نظر ..إليّ كما قالت عماتي وخالاتي ونساء اخريات وانا في بطن ذلك البرش محشوراً بين الخرق البالية، حدق فيّ ثم ابتسم ابتسامة غامضة وضربني ضربة خفيفة رفيقة بمسبحته على وجهي ثم مشى وغاب وراء أشجار العرديب العالية ولم يره احد بعد ذلك ….! (ث) نشأ ذلك الرجل الثمانيني كما يقول، وكما يؤمي حفيده مصدقاً قوله، ينتظر شيئاً ما، ليس على كل حال كما فهمنا آخر الزمن ونهاية الدنيا، لكنه كان ينتظر ما لم يصرح به أو يقله ابداً، مرت سنون وعقود والرجل من طفولته وصباه وفتوته وكهولته وشيخوخته، لم يجد ولا يعرف ما الذي ينتظره، دون ان يعترف انه متعلق الآمال في نبوءات ذلك العابر قبل ثمانين سنة وتزيد في بطاح وخلاء نسي كل شيء حتى الدم الذي شرقت به الرمال والتراب . كنا نتحلق حوله باستمرار في ايام الدوام الدراسية وفي العطلات المدرسية، نستمع الى احاديثه المثقلة بالتطلع وحفظنا طريقته الغريبة في كر مسبحته الالفية وحبات لالوبها المتحول الى اللون البني الداكن، وشهدنا الفترات التي تطور فيها اهتمامه الى نمط عصري حديث، حيث صار رفيقه المذياع ونشرات الاخبار التي تأتيه بالانباء من كل فجاج الدنيا، حلت روح شبابية في جسده العاجز، وصار كلما جلسنا اليه يتحدث عن شيء سيحدث وعن عالم جديد يفيض بالسعادة ورغد العيش والسلم والطمأنينة ..وعن أحلام ظلت في خاطره لكنها ستأتي محلقة بجناحين!! كنا نظنه ويظنه حتى حفيده انه يهذى بهذه التخاريف، وكثير من الناس يألفونه ويستمتعون بما يقول، لأنه في بعض من الحالات صاحب رأي صائب وحكمة لا تضاهى ..ويظنون ان شيئاً من كلامه جنون، حتى ذلك اليوم من ايام ديسمبر 1984م .. (ج) في هذا اليوم الذي رحل فيه عن الدنيا وفارقها، كانت نسمات الشتاء خفيفة منعشة، جاء بعض اطفال الحي وقد شقق الشتاء أياديهم وارجلهم وخدودهم وبدت طبقة سوداء خشنة على وجناتهم، يحكون عنه ان الرجل الثمانيني وهو في كامل زيه وزينته طلب من اهل بيته ان يجلسوه في كرسي القماش المخطط امام باب المنزل ليرى الشارع والناس، ذهبنا الى حيث اجلسوه بعد نصف ساعة.. وجدناه هناك وحوله بعض اهل الحي وكان قد فارق الحياة للتو وهو يشير باصبعه الي امتداد الشارع … قال حفيده يحكي خاتمة لحظات جده، ان آخر كلمة سمعها منه جارهم وكان يجلس بالقرب منه .. انه صاح ( ياهو .. هو نفسه ..) وعندما استفسره .. قال له انه الرجل الغريب الذي ضربه بالمسبحة ونظر اليه وهو طفل صغير مسجى في برش السعف قبل ثمانين سنة ، وقد مر امامه قبل قليل حيث كان يشير !!