إذا كان خيار الجنوبيين قد اتجه صوب الانفصال عن السودان الكبير بنسبة فاقت 96% فهذا يعني أن مستويات رفض الوحدة كذلك، وهو أمر منطقي بالنظر إلى طول الحرب الأهلية السودانية التي بدأت قبيل استقلال السودان عن بريطانيا عام 1956.
كان المحتل البريطاني قد ضرب جذور الانفصال قبل منح السودان استقلاله، فالجنوب معزول تماما عن الشمال، فلا يحق للشمالي العمل أو السكن في الجنوب إلا بقرار من الحاكم العام، حتى الجيش السوداني التابع للجيش البريطاني كانت موسيقاه العسكرية ذات طبيعة قبلية تُخصَّص فيها مارشات عسكرية جنوبية تختلف عن الشمالية.
لم يتفق الجنوبيون على أمر كما اتفقوا على الانفصال، ومع ذلك فإن ثمة حديثا يدور في الكواليس السياسية الدولية والإقليمية والمحلية السودانية الشمالية والجنوبية حول خيار إعادة الوحدة؛ وهو الأمر الذي تنبّأ به محللون قبيل الانفصال، ونظّر بعضهم للانفصال على أنه السبيل الوحيد للوحدة؛ وكنتُ واحدا ممن ينظِّر بقوة لهذا الخيار في مراكز الدراسات المتخصصة إذ يستحيل أن تفرض الوحدة باتفاقات سياسية ضاغطة لا تراعي ثقافة الجماهير وتعبئتهم النفسية ومؤشرات الغضب التاريخي المخزون في نفوسهم نتيجة الدم المسفوح طوال ستين عاما لا تكاد تنقطع.
مبررات عودة الوحدة
بدأت مبررات هذا الخيار بالتبلور في ذروة مناقشة قضية الانفصال، أثناء التنظير والاحتجاج على ضرورة تبني خيار الوحدة بين السودانيين والاستعداد له وحث الجماهير الجنوبية على التصويت له قبل الاستفتاء الشهير، وقد استند هذا الاحتجاج المنطقي على أمور:
– جنوب السودان إقليم متمرد تاريخيا ليس له ناظم سياسي أو تجربة وحدة سياسة أو جغرافية أو مجتمعية.
– هذا الجنوب مفكك قبليا بين قبائل كبيرة شديدة الخصومة والعداوة لبعضها، وقبائل صغيرة تغيّر انحيازاتها وتحالفاتها مع تغير خريطة القوة.
– الجهاز الحاكم في الثقافة المجتمعية هو العادات والتقاليد التي تمثلها سلطة السلاطين الذين تنحصر خبرتهم وطموحهم في حماية القبيلة والدفاع عنها وضمان استمرار مكتسباتها.
– انهيار البنية التحتية للجنوب نتيجة توقف التنمية وطول الحرب فليست هناك مدارس ولا جامعات ولا طرق ولا مستشفيات ولا قوانين ولا.. والقائمة طويلة.
– انعدام الخبرات والكوادر الجنوبية المؤهلة وانحسار التعليم إلى مستويات مخيفة جدا.
– الجنوب كيان داخليّ لا يطل على بحر وليست فيها شبكة طرق قومية أو شبكة طرق مع جيرانه الأفارقة مما يعني أنه سيظل معتمدا على جيرانه في عبور البضائع والسلع وهو ما يعني تحكّم الشمال السوداني والجنوب اليوغندي بالشأن الاقتصادي.
– اعتماد قطاعات واسعة من الجنوبيين على نمط حياتهم الشمالي ولاسيما في الجانب الاقتصادي، واستمرار خطوط التواصل الإيجابية مع قطاعات شمالية واسعة بالمصاهرة أو المشاركة التجارية أو غيرهما.
– اللغة التي توحِّد الجنوبيين هي اللغة العربية في إحدى تشكيلاتها المحلية المسمّاة بـ”عربي جوبا” نسبة إلى العاصمة الجنوبية “جوبا” ولا تستطيع معظم القبائل الجنوبية التفاهم مع بعضها إلا بهذه العربية بسبب كثرة الألسن واللغات التي تصل لأكثر من ستين لغة محلية، ولم تستطع اللغة الإنجليزية التي جعلوها لغة رسمية أن تحل محلها بسبب انهيار التعليم وعدم استقرار البلاد، ولذلك تجد معظم الزعماء الجنوبيين يخاطبون شعبهم بهذه العربية.
– الحضور القوي للدين الإسلامي والذي تقدِّره أوساط رسمية بنحو 20% فيما تتحدث مؤسسات الدعوة الإسلامية التي كانت عاملة في الجنوب بأنها تزيد عن 35% وأنها تزيد عن نسبة المسيحية، فيما تشكّل الديانات المحلية النسبة الأكبر.
أميركا وخيار الوحدة
بعض الأوساط السياسية في الإدارة الأميركية كانت ترى أن دعم الانفصال خطأ كبير، وأن خيار الوحدة أفضل بكثير للولايات المتحدة من خيار الانفصال، وكانت ترى أن قوة اللوبي الصهيوني المؤيد للانفصال كان وراء الدعم الأميركي له، ولم يكن نابعا من قناعة أميركية، بل تتحدث هذه الأوساط أن جون قرنق الزعيم الجنوبي الراحل الذي قاد التمرد الجنوبي مدة طويلة كان وحدويا أكثر منه انفصاليا، وتحتجّ هذه الأوساط بعدة قضايا:
– من شأن الوحدة بين الجنوبيين والشماليين أن تجعل السودان ضعيفا دائما نتيجة العقد المجتمعية المتراكمة عبر العقود الطويلة مما سيستنزف السودان ويغرقها في المعالجات، إضافة إلى سعيه المتواصل لإطفاء الحرائق التي تشتعل بلا نهاية.
– ومن شأن الوحدة أن تمنع تطبيق الشريعة الإسلامية التي يرفعها قادة الشمال ذوو التوجه الإسلامي المعروف، وسيمنع الشمال من التحول إلى دولة دينية قد تكون خطرا على المصالح الأميركية في المنطقة، حيث سيضطر السودانيون إلى الاحتكام للأعراف القبلية في كثير من الحالات المتعلقة بالجنوب وهذا يعني تطوّرا في البيئة العلمانية مع احتمالية استلام جنوبيّ مسيحي أو لا ديني للرئاسة في الجنوب نتيجة توافقات سياسية مرحلية.
– ومن شأن هذه الوحدة أن تعطي مجالا لإسرائيل أن تجد صداقات لها داخل الحكومة السودانية مما يضمن لها نفوذا ما في منظومة السلطة، بما يمنع الحكومة الشمالية من دعم القوى الفلسطينية المعادية للاحتلال الإسرائيلي.
– لا يمكن تحمّل نفقات دولة جديدة في الجنوب لا تحظى بأي فرصة للعيش أو الاستمرار في ظل قوة سلطة القبيلة، إذ لا يمكن الجمع بين فقه الدولة الاستيعابي وفقه القبيلة الإقصائي.
هل يتصدر خيار الوحدة؟
بالنظر إلى المعنيين الأهمّ بهذا الخيار وهم السودانيون في الشمال وفي الجنوب فيمكن تحليل التالي:
فيما يتعلق بموقف الشمال:
– عملت الحكومة السودانية في مرحلة التفاوض قبل نيفاشا ثم في مخرجات التفاوض عبر الاتفاقية الموقعة بين الطرفين على تسمين خيار الوحدة وإسناده والترغيب فيه، ووضعا مسارات إيجابية له، وقد خاب أملها جدا عندما ظهرت نتائج الاستفتاء الشهير، وقد عملت الحكومة على تعزيز خيار الوحدة بإهمال إمكانية ظهور الخيار البديل الذي لم تستعد له جيدا اعتمادا على تأكيدات حليفها الجديد جون قرنق الذي مات قبل الاستفتاء وأثارت وفاته الأحقاد رغم براءة الحكومة السودانية من الاتهامات بالتسبب في مقتله، وهو الأمر الذي دفع السودانيون بسببه ثمنا غاليا من اقتصادهم بأزمة اقتصادية معقدة ما تزال ذيولها تجر السودان إلى مربعات صعبة.
– ترى أوساط عديدة أن الحركة الإسلامية السودانية التي تنتمي لها منظومة الحكم في السودان هي التي أنتجت هذا الانفصال، وأن أمين عام الحركة آنذاك وهو نائب رئيس الجمهورية آنذاك هو الذي وقّع اتفاقية نيفاشا التي مهّدت للانفصال، هذا الأمر رفضه الإسلاميون السودانيون ودافعوا عن موقفهم بشدة لكن المشهد الختاميّ لهذا الاتفاق وصل إلى الانفصال، ولذلك تجد معظم الإسلاميين السودانيين ولاسيما في مربع السلطة يسعى لغسل هذه التهمة ولو بالتفكير في استعادة الوحدة بالخيارات السلمية.
– كما أن دولة السودان تتأثر سلبا بدمار الجنوب وفشل سلطته وانهيار منظومة القيادة فيه باجتياح الملايين لحدوده وزيادة الأعباء الاقتصادية والأمنية عليه.
– كما سيؤدي هذا الأمر إلى إخلاء مناطق حدودية واسعة من قطع الجيش الجنوبي مما سيعطي مجالا حيويا وعمقا تكتيكيا للمجموعات المسلحة المتمردة في جنوبي كردفان ودارفور والنيل الأزرق، وإن كان الأمر لا يعول عليه كثيرا نتيجة إصرار أطراف نافذة في الحكومة الجنوبية على دعم قطاع الشمال المتمرد على السلطة في الشمال، لكن تكلفة تدخل الجيش السوداني الشمالي في مناطق دولة أخرى ستكون كبيرة.
– معارضة معظم الأحزاب السودانية التقليدية للانفصال ورفضهم له مما يوفر بيئة سياسية داعمة لأي خطوط اتصال جديدة.
هذا كله كان سببا في الإجراءات الإيجابية التي قررتها السلطات السودانية في التعامل مع الجنوبيين كمعاملة السودانيين في التنقل والإقامة والعمل.. وهو الأمر الذي لم يستمر طويلا بعد انهيار اتفاقيات أمنية تحدّ من التعامل مع المتمردين الشماليين المدعومين من الجنوب.
فيما يتعلق بموقف الجنوب:
بهجة الانفصال حلّت محلها آلام عريضة استبدّت بقلوب الجنوبيين الذين رأوا حلمهم الكبير يتلاشى أمامهم بصراعات أهلية وحروب قبلية تمارَس باسم الدولة ومصلحتها وهناك تبدَّى لهم المشهد الكبير:
انهارت وعود الرخاء الاقتصادي التي جاءت بعد رفع ديون جنوب السودان دون شماله، وبعد انهيار تصدير النفط الجنوبي نتيجة الخلافات الطويلة مع دولة عبور خط الأنابيب في السودان الشمالي ونتيجة انهيار الأمن في مناطق الإنتاج، وبعد سيادة الفساد السياسي والمالي وحماية مراكز النفوذ القوية لهذا الفساد، وسقوط سمعة الجنوب في التداولات المالية.. وهروب المستثمرين الكبار من الدول الحليفة.
– انهارت منظومة الأمن وفقدت الدولة قدرتها على التحكم والسيطرة، وكثرت المجموعات المسلحة بذريعة الاحتجاج على التهميش أو حماية نفسها من سوء الأوضاع أو غيرها.
– انهارت منظومة الإدارة بين المركز والولايات وأصبح كل طرف مستقلا عن المركز يرعى شؤونه بنفسه ولا يكاد يمارس المركز شيئا سوى فرض مزيد من الإجراءات الأمنية.
– فرار ملايين الجنوبيين إلى الدول المجاورة ولاسيما إلى يوغندا والسودان، واقتناعهم بأن حلمهم لا يمكن الوصول إليه، وقد استعاد معظم الجنوبيين أعمالهم في السودان وأعادوا تأسيس علاقاتهم الأولى وبدأ ينمو سوق العمل الجنوبي مجددا في الخرطوم والمحطات الحدودية مع الجنوب، وأصبحت السودان من أهم البلدان المزوّدة للبضائع والسلع للجنوبيين عبر خطوط الطرق القديمة ووسائل النقل النهري.
– عودة بعض السياسيين الجنوبيين إلى أحضان بعض الأحزاب الشمالية على قاعدة توثيق العلاقات بين الشعبين، وهو الأمر الذي رحبت به معظم الأحزاب السودانية الشمالية ودعمته.
– تورّط دول كبرى كالولايات المتحدة، وإقليمية مثل يوغندا في إدارة قطاعات في الجنوب وفق مصالحها ورؤيتها بعيدا عن مصالح الدولة الوليدة مما تسبب في كثرة التدخلات وتوليد مراكز نفوذ ركزت السلطة في محاور ومناطق على حساب محاور ومناطق أخرى.
شكل الوحدة الممكنة
دروس الحرب والوحدة والانفصال أعطت الجميع فرصة لقراءة الاحتمالات ورسم التصورات المستقبلية، لذلك تجد أن أكثر القراءات المتفائلة بعودة السودان إلى مساحة مليون ميل مربع وزيادة لابد أن تبدأ على قاعدة الانفصال نفسها، من خلال تأسيس نظامين في دولة واحدة، أي كونفدرالية مرنة تحمل خصوصيات الشمال وتحافظ عليها وتمنح الجنوبيين استقلالهم وحلمهم القديم وتعطيهم فرصة لتدخلات حكيمة في صراعاتهم المريرة باسم الاتحاد الكبير.
ويستلزم هذا الأمر استفتاء كبيرا يعيد ثقة الشماليين بالجنوبيين الذين تركوهم بالإجماع ورفضوا أن يكونوا جزءا من نسيجهم، وهو ما أوجع الشمال ورسم فيه خطوط مفارقة نهائية يصعب محوها، ولكن كثيرين منهم ما زال يعيش بذاكرة السودان الكبير الواحد القائم على التنوع، وهوية الغابة والصحراء التي يجمعها النيل.
المصدر : الجزيرة