* تتحقق اليوم إحدى قراءات ذلك الكادر الجنوبي، الذي قال لقومه بين يدي الانفصال، “إن الشماليين بالنسبة لنا كأوراق الفلين التي توضع بين ألواح الزجاج”.. فإذا ما سحب ورق الفلين هذا حتماً سيتطاقش الزجاج!!
* ولم نستنكف في المقابل نحن في الشمال يوماً أن نقوم بدور (أوراق الفلين)!! بل لا يزال بعضنا يبكي بالدمع السخين انفصال ورق الفلين عن ألواح الزجاج!! وبالمناسبة وحتى ننشط ذاكرة الجميع، الجنوبيون وليس شعب آخر هم من ذهب طواعية إلى صناديق الانفصال بنسبة تسعة وتسعون بالمائة.
* صحيح كانت الدفوعات والمسوغات يومئذٍ في الخرطوم من أنصار الوحدة، بأن شعب الجنوب لم يبلغ درجة الحلم والنضج بعد حتى يعطى حق تقرير المصير.. السلاح الذي صوبه الجنوبيون إلى صدورهم العارية.. غير أن الرفيق فاقان أموم في المقابل كان لنا بالمرصاد، وهو من داخل مجلس وزرائنا الاتحادي يقر بأن دولة السودان هي الفاسدة والفاشلة!! وسيرينا عما قريب حال نيل الانفصال كيف يصنع دولة ناجحة في الجنوب!!
* وكان الثوار الجنوبيون يظنون أن صناعة الدول لم تكن سوى رفع علم وإراقة نشيد وطني، وفتح سجل لمقعد في المنظمة الدولية!! ولم يدركوا الشقة بعد، بأن صناعة حركة متمردة تخرب أسهل ألف مرة من أن تعمر صرحا واحدا!! فحتى تلك اللحظة كانت كل خبرتهم لم تتعد مهارة استخدام معاول الحرب وأسلحة الدمار والخراب!!
* على أن صناعة الإعمار والسلام والبناء هو المهة الأصعب في حياة الدول والشعوب، وهذا ما لم لم يتحسب له الرفاق، فالحرب لا تحتاج إلى أكثر من أن تضغط على زناد مدفعك ليعم الحريق وتتناثر الجثث، وفي المقابل صناعة الحياة والسلام تحتاج أن تضغط على باقي عمرك.. تحتاج لسنين بأكملها مليئة بالعمل الجاد الدؤوب!! سيما أن الجنوب الذي وحدته الحرب ضد الشمال هو بالكاد يتشكل من مجموعة من (ألواح الزجاج) منزوعة الفلين!! ويحتاج لرعاية خاصة وفترة تعايش وتلاحم بين مكوناته حتى يصبح شعباً واحداً متماسكاً!!
* وثمة خطيئة أخرى باهظة هي الأخرى ارتكبها الرفاق الجنوبيون، تتمثل في استعجالهم الحرب ضد الشمال، فأول شيء فعله الثائر فاقان أموم بعد الانفصال هو أن وجه بنادق دولته الوليدة إلى صدر الشمال، الأم الرؤوم التي ربت وعلمت وأعطت وما استبقت!! وكان يفترض أن يذهب بالشعب الجنوبي مباشرة إلى صناعة بنيات دولته وتأسيس دواوينها وتثبيت أركانها، وهو الشعب الذي أخذ حصصه كاملة من الجوع والمرض والموت والنزوح والاحتراب!!
* صحيح إننا بفقد الجنوب فقدنا بعضا من الأرض والنفط والتأريخ.. ولكن أيضا صحيح أننا تخلصنا من بعض الأعباء.. فعلى الأقل إن ما يحدث الآن في جوبا كان يمكن أن يكون في شارع القصر بالخرطوم!!
* هل يحتاج الأخ الأستاذ الطيب مصطفى أن ينحر ثوراً آخر، بأن القصر الرئاسي الذي يحترق الآن على الأقل، ليس هو القصر الجمهوري بالخرطوم.. تصبحون على خير..