يعتقد شباب الألفية الثالثة من العرب، أن جيلهم منحوس، بسبب الحروب المشتعلة في كل الأرجاء، وبسبب الدماء السائلة بفعل تلك الحروب، وعندما كنا شباباً كان كل ركن من العالم العربي ينزف بفعل الثورات ضد الاستعمار، أو بسبب الانقلابات العسكرية الفاشية الباطشة التي تقود الشعوب إلى الاستحمار (لا مؤاخذة)، وكانت حركات التحرر الوطني في أوجها في الستينات وسبعينيات القرن الماضي، وكان جيلنا مقتنعاً بأن استئصال إسرائيل أسهل من خلع ضرس العقل، بسبب ما كنا نسمعه من قادة ذلك الزمان: نتخلص من «شوية» مؤامرات داخلية وإن شاء الله نصلي العصر في تل أبيب خلال شهر أو شهرين، وجاءت حرب يونيو 1967 وانتهت خلال ساعات، واكتشفنا أنه لولا عين الاتحاد السوفيتي «الحمراء» وتحذير الرئيس الأمريكي وقتها -دوايت آيزنهاور-لإسرائيل لصارت معظم البلاد العربية «فلسطينات».
صبت الهزيمة (أعطيناها اسم دلع وجعلناها «نكسة») في تلك الحرب وما أعقبها من إعلان استقالة جمال عبدالناصر من منصبه كرئيس لمصر ماء بارداً على رؤوس الملايين من أبناء جيلي، فقد طارت السكرة بخمر إذاعة صوت «العرب»: أنا النيل مقبرة للغزاة.. ويلك يللي تعادينا يا ويلك ويل. وجاءت الفكرة المنكرة بأن إسرائيل قادرة على هزيمة الجيوش العربية مجتمعة بالجملة وبالمفرق.
وكان ذلك عصر عمالقة تحدوا أمريكا: نهرو الهندي وتيتو اليوغسلافي ونكروما الغاني وكاسترو الكوبي وسوكارنو الإندونيسي وأحمد بن بيلا الجزائري ولوممبا الكنغولي، كانت الثورة الجزائرية على نحو خاص مصدر فخر لنا، وكنا نتابع نضالات جبهة التحرير الجزائرية في كل شبر، ونعرف أسماء المدن والقرى الجزائرية كمعرفة الواحد منا تضاريس كفيه، وكانت حملات التبرع بالمال تنشط في كل مواقع العمل والمدارس، وكان الطلاب يتبارون للتبرع للثورة الجزائرية بقيمة وجبة الفطور، ورأى زميل لنا أن التعاطف مع الثورات قد يعود عليه بمنفعة مالية، ودرس الساحة السياسية، واختار ثورة ليجمع باسمها بعض المال لنفسه، فطاف في مدرسته الثانوية يناشد الطلاب التبرع لدعم الثورة الروسية، ولم يكن صاحبنا يعرف وقتها أن الثورة الروسية انتصرت قبل ذلك بنحو خمسين سنة، وأنها باتت تتبرع للثورات الأخرى، فصار كل ضابط عربي يحلم بالمجد، يستولى على السلطة ويزعم أنه اشتراكي حتى تعطيه موسكو مالاً وعتاداً يعزز به سلطته، ثم يلعن «خاش» الاشتراكية.
وأتذكر بكل فخر كيف أن جامعة الخرطوم التي كنت طالبا فيها، كانت تقف بتنظيماتها الطلابية والأكاديمية والثقافية والسياسية مع المنظمات الإرترية دعما لها لنيل استقلالها من إثيوبيا، والتقيت مرات عديدة في دار اتحاد الطلاب برئيس ارتريا الحالي أسياس أفورقي، وكان وقتها مناضلا بسيطا شديد التواضع، ثم وصل إلى السلطة وتحول إلى زعيم إفريقي تقليدي أي طاغية.
وكانت كل مؤسسات جامعتنا تلك تساند بقوة الثورة في جنوب اليمن ضد الاستعمار البريطاني، وكان معظم قادة الثورة البارزين قد تلقوا تعليمهم الثانوي أو الجامعي أو الاثنين معا في السودان (عندما كان في السودان تعليم حقيقي)، وكما نكّل «أفورقي» برفاق النضال انقلب مناضلو جنوب اليمن على بعضهم البعض تصفية دموية حتى باتوا من الضعف، بحيث احتاجوا إلى وضع بلدهم تحت سلطة «الشاوش» علي عبدالله صالح بزعم توحيد شطري البلاد.
ويحضرني في أمر الثورة الجزائرية التي قدمت مليون شهيد حادثة واقعية على لسان مسؤول في اتحاد كرة القدم السودانية، فقد كان على المنتخب السوداني لكرة القدم أن يؤدي مباراة مهمة ضد نظيره الجزائري في العاصمة الجزائرية، وزار المسؤول (أخصائيا) في تحديد نتائج مباريات كرة القدم، وبعد أن دفع للدجال بضعة آلاف أعطاه صرة وقال له: ادفنها في مقبرة في الجزائر وفوز السودان مضمون، وذهب صاحبنا إلى الجزائر واستأجر سيارة طاف بها أرجاء المدينة النهار كله من دون أن يعثر على قبر واحد، فعاد إلى الفندق وقال لبقية أعضاء البعثة السودانية: حكاية المليون شهيد طلعت إشاعة.