كان د. الترابى جرئيا فى نقده لعلل الفكر الإسلامى المعاصروالتى أكبرها تحول الفكرة الى طقس وتحول العالم والحاكم الى وثن مقدس.لايحتمل الوقوف بين يديه إلا الإغضاء ولا الإستماع إليه إلا التأمين.ومما يدعو للتأسف إن كثيرين ممن إستمعوا لدعوته هذه لم يدركوا مغزاها فتعاملوا مع قكره المطروح بالتشكيك وأحيانا غلوا إلى التكفير. وطائفة موالية تعاملت معه بطريقة التعظيم والتمجيد المتعصب الذى يكاد يعصمه من خطأ الإجتهاد بل من كل نقص وخطأ وهو الأمر الذى ظل الترابى ينتقده ويذكر بما ذكر به الأولون إن كل مجتهد يخطىء ويصيب وأنه قد يميل وقد يجور وقد يذنب ويتوب.
الترابى كيف رأى علل الفقه الموروث:
يعزو دكتور الترابى هــذه العلل إلى جملة آفات أصابت التدين الإسلامي وأرتبطت بمؤثرات تاريخية معينة .ومن جانب آخرفهى تمثل لديه صورة من صورالسنن الثابتة في أمراض الفكر الديني والفقهي كما جرى وصفها في القران والسنة ، ومن ذلك الطقوسية الظاهرية و الشكلية والتحايل علي المقاصد ، ومنها الاختصاصية و النقلية والشيعية والسفسطة . والدكتور الترابى صاحب الرؤية المركزية التوحيدية يؤكد أن الأصل في التدين إنه يكون شاملا لسائر وجوه الحياة ولكن الناس إذ تغلبهم ابتلاءت الواقع المتجدد ما فتئوا يقصرونه علي الحياة الخاصة .وتلك سنة الحياة حتى في الديانات والمذاهب الوضعية فقد يعتريها التبديل وتعجز عن التطور فتنحسر دون الحياة العامة لأسباب عديدة . وقد جرى مثل ذلك في تاريخ الإسلام وارتدت أثاره على الفقه فاعترته جملة من الأعراض .و من ذلك الخصوصية حيث يدور الفقه حول الشعائر والأحوال الشخصية والمعاملات الخاصة استجابة لحاجة مجتمع اختصر بدينه على خويصة الذات وشؤون الفرد . وزماننا يعبر عن ذلك بالتوجه العلمانى الذى يجعل الدين فى خاصة النفس لله وأما الشأن العام فلسلطان الزمان قيصراً كان أم ملكاً أم رئيساً وعززت الصوفية القائمة على إلايغال في التجربة الذاتية هذا الإتجاه ذلك وصارمعنى الجماعة مؤذنا بالتعرض للفتنة . ولكننا فى زمان ازدهرفيه الشأن العام وتقارب الناس وتداخلت مصالحهم بتطور وسائل التواصل والإتصال فأتسع الشأن وتباعد عن الفقه و الفقهاء واتسع ما بينه وبين الدين ونظمه ومقاصده وإذا غابت الجماعة ونظامها العام أهدرت الأصول الجماعية في الفقه وما يثمره من فقه اجتماعي عام . و ترتب علي ما تقدم أن اصبح الفقه فقه فتاوى شخصية لا مبادئ كلية وذلك لإهمال الأمر العام والشؤون الكفائية والسياسية ثم جرى إعمال المنطق التحليلي في نظم الإسلام للحياة الخاصة ففتت إلى جزئيات منثورة . و أصبحت جملة من الفرائض والمندوبات والمكروهات .وآثر أهل الفقه التعويل على الأصول الفرعية كالأحاديث الآحادية المفردة والمأثورات والسوابق . وتناقص وقل أثر القواعد الكلية والدلالات والعموميات القرآنية .ويذكر الترابى ( أن الأصل في الدين توحيد الجماعة العابدة والإشاعة السوية لوجوه التدين فلايجيز أن يقوم رجال الدين وسائط ينقطع ويستغني بهم العوام أو الحكام عن مباشرة التدين والإلمام ببعض علمه ) ولكن الظاهرة اللازمة في التطور الوضعي أن يختص به رجال دون العامة ثم ينتظموا في سلطة مركزية تحتكر العلم أو التدين وأسراره ووظائفه ثم تنازع السلطة الحاكمة حقها فى التصرف بالسياسة الشرعية وحقها فى توجيه الحياة العامة. ولم تسلم حتى النظم القانونية الوضعية في الدول اللادينية في جنوح أهل مهنة القانون للإستئثار به والغيرة من إشاعته بالتدوين . ولئن سلم المسلمون من هذه الظاهرة فان بعض أثارها قد غشيتهم غاشية منها المبالغة فى الاختصاص . وقد كان الفقه فى أوله أمره شعبيا لانه فقه سلوك خاص وعام وتعبير عن العقيدة لكل فرد وليس محض نظام اجتماعي فحسب .ولئن عرف الناس لعلمائهم حقا لاختصاصهم وتفرغهم للعلوم فقد كان تعلم الفقه واسعا شائعا وكان التأهل فيه متاحا مباحا فما كانت المهنة مغلقة ولا العلم متعسرا وكان الاجتهاد حرا مما وسع قاعدة الفقهاء وإنما كان التقليد يجرى بحكم الضرورة ويتوجه صاحب المسألة إلى من يشاء من الفقهاء حسب تقديره وثقته لا يقيده مذهب ولا معيار رسمي للأفضلية . فلا سلطة مركزية في الفقه وما ينبغى أن تكون . ولكن ما لبثت هذه المبادئ أن ضاقت وبعدت الشقة بين الفقيه بين العامة ووضعت التقاليد المقيدةة للاجتهاد والمرسخة للتقليد . وبرزت الاختصاصية في علم الفقه والوظائف المنوطة به وكان الأثر الاجتماعي لذلك أن تناقص الفقهاء واضمحل دورهم في قيادة لمسلمين ، بينما تعاظم دورالوعاظ و المتصوفة وكان الأثر المباشر لذلك أن ضاقت قاعدة الفقه وقل تفاعله مع حياة العامة ، حتى لا تكاد تجد للعرف الذى كان أصلاً مزدهراً أثرا مقدرا في أصول الفقه . واحتاز الفقهاء سلطة إفتاء العامة وتوجيه القضاة وكما انحسر دور العرف والمنكر في الفقه وانزوى الحكام عن دورهم في الشورى الشعبية وعقد الإجماع الرسمي الذي ينظم حياة المسلمين ويرعى مصالحهم العامة وصاحب كل ذلك النصوص الفقهية المذهبية الجانحة للتركيز على الشؤون الخاصة لضبط حياة عامة المسلمين ضبطا موضوعيا يلتزمونه دون كثير وعى بأصول الأحكام أو فهم لمقاصدها .
والأصل في الدين كما يقول الترابى ( أن يكون موحدا للظاهر والباطن بل الباطن هو جوهر التدين والظاهر صورة التعبير عنه ولكن الوضع البشري كثيرا ما يجنح به نحو الطقوس والنظام الشكلي الفارغ وهى ظاهرة تصيب الشرائع الوضعية أيضا فتتوارد علي أطوار تاريخها دورات التقلب والشكلية ثم تتهيأ لمرحلة إحياء بالتعويل علي حسن النيات وتوخي المقاصد وتحقيق وظائف العدالة الاجتماعية . ومن مظاهر ذلك في الفقه المنقول بروز الظاهرية ، حيث يتركز الاعتبار للمباني دون المعاني وعلي الألفاظ والقوالب دون النيات التعبدية التي هي العنصر الإلزامي في صحة كل أمر شرعي ديناً . ولئن كانت العدالة القضائية وحدود البينات فيها لا تمكن من الاعتبار الأتم للنيات والمقاصد فقد عُدى الأمر إلى مجال الفتوى وفتح باب واسع لما يسمي الحيل الشرعية فبنيت إحكام كثيرة علي اعتبارات حكمية وهمية وراج الفقه الأصولي الظاهري بينما انحسرت الأصول المعنوية التأولية . من ناحية أخرى جنح الفقه في آخر عهوده للقطعية والانضباط الشديد وقد كان مرد ذلك الإفراط في الضبط والنظام إلى عوامل منها اثر المنطق الصوري في تحرير القضايا والاسدلالات ومنها الغرض التعليمي في صياغة النصوص ومنها الحرص علي سلامة أشكال العبادة والمعاملة في مجتمع يجنح للمحافظة والخوف من الفوضى ولكن النتيجة أن ضاق مجال السعة والخيار والذي يمكن من تكييف الأعمال وتطويرها حسب مقاصد التعبد ومقتضياتها المتطورة .وكثيراً ما تجرد الفقه وأهدر المقاصد الشرعية واعتزل الأطر الواقعية ليتجه أحيانا للاستجابة للفروض والأمثال التقديرية البحتة فتباعد عن الحياة واصبح صناعة فنية تكيف الأحكام مما يناسب وظايفها الصورية في المنطق الفقهي ويلبي حاجات الاصطلاح والجدل الاختصاصي والوحدة المنطقية لنظام الأحكام وفي ذلك بعض وجاهة ولكنها إذا اشتطت اجتاح وجوها اخري من الوحدة المرغوبة بين العلم والعمل الحي ،وبين الوضع التكليفي والنيات وبين المساواة العامة والقسط السوي ثم بين القانون والورع والأخلاق وسائر الحياة الدينية التي تستدعي المرانة والاتساع بل أن الأمر يمس بآخرة التقدير وحدة الشريعة والعقيدة .والأصل في الدين أن يكون وعياً متجدداً فيما يكون سمعاً واتباعاً .ذلك أمر يقتضيه توحيد الدين لله ولكن ما تنفك الوسائط كما قدمنا تظهر فتقطع التدين ليتعلق بها ويصبح تقليديا أعمي وعصبية للائمة والطوائف والتاريخ ويؤدي هدا في تاريخ الديانات إلى مواقف الشيعية والسلفية ويماثله في التاريخ النظم الفقهية المذهبية والمدرسية الشائعة وفرض المحافظة . الذي اشتهر به القانونيون ولا غرو أن يظهر دلك في الفقه الإسلامي المؤسس علي أصول نقلية دينية تقادم عهدها في الزمان .
وكثيرا ما يتصور المتدينون الذين يركنون لجهاد أسلافهم واجتهادهم أن كل جديد بدعة وانحراف . ويخاف المتشددون من الحرية تتفتح للأهواء فتدعو للفرقة والخلاف لاسيما إذا تكاثر الداخلون دون تربية تعلم الأصول وتزكي النفوس المجانبة ويغالي أصحاب الفقه المنقول في توقير السلف وتحقير الخلف الذي يرونه ناقص الأهلية . لذا يحرص الناس علي هدى أئمة ليقلدونهم خشية من الابتداع ويستغنون بهم عن النظر في الأصول خوف جنوح الرأي التفسيري أوخشية فساد التأويل ثم يشتد الولاء للشيوخ ليصبح عصبية تفرق ولا تجمع وتتمايز ولا تتعاون علي إدراك الحق إلا بالجدل والمراء .
وقد أقاموا القيود الحديدية علي الإفتاء بغير المذهب . ولا ريب ان في المذهبية كانت سببا لسد الذرائع وإلى التحكمات والهوى في الفتوى وتأمينا للعلاقات والحقوق الاجتماعية ولكنها أدت كذلك إلى احتجاب الأصول الأساسية الموحدة وغياب الالتزام الديني بمعني الوعي الشخصي المسؤول. وسرى بسبب ذلك كله الجمود علي المنقول من فتاوى المذهب لاسيما عندما لاحظ الاتباع مدى اتساع الثروة الموروثة فتوهموا أنها تكفي لكل حاجة ولما كان دلك موازيا بل ملازما لجمود في الحياة الدينية الحضارية كافة بل لانحسار وتخلف في أشكالها إلا ما كان جديداً ولد خارجا عن صور التدين البالية وبجمود في العلم العقلي لإنتشار النقل والتقليد في كل علم فقد قصر الفقه عن مواكبة الجديد من الحياة وتفاقم هذا القصور قرنا بعد قرن .
ويخلص الدكتور الترابى للقول(فالحق أن الفقه المتوفر لنا اليوم في قصور شديد فانه إذا طابقناه إلي مساحة الحاجة الإسلامية ألفينا فيه ثغرات واسعة لاسيما في الحياة العامة بجانبها الدستوري الذي يعود القصور فيه لعهد بعيد وجانبها الإداري الذي غشيته أثار التطور المادي الذي يشكل في كل نظام قانوني مجالا واسعا للأحكام المستجدة المكثفة . ثم أن التطور في علاقات الاجتماع الحضري الصناعي وفي مناهج علوم الطبيعة والمجتمع يستدعي نسخ كثير من نتائج الفقه مما لا يمثل مقتضى الدين في الحاضر والي تكييف كثير من أساليبه واتجاهاته لأغراض التعليم والتطبيق الحديث ثم أنا مدعون لتجاوز علل الفقه التقليدي التي تقدم ذكرها ).ويمضى فيقول ( أنا نحتاج لفقه حي عامر بالنيات الدافعة هادف للمقاصد الشرعية يناسب ظروف النهضة كما ناسب القديم بشكليته وفروعيته وشدة ضبطه أغراض المحافظة في عهد بائد ) وخلاصة القول أن حق التدين الحق يقتضي فى رايه وكذلك أسباب الواقع تمكننا من أن نبلغ في زماننا هذا فهماً للإسلام غير ما بلغ الأسلاف وربما أكثر وذلك هو الاجتهاد الذى هو إفراغ الجهد الميسور كله فى طلب الحق ووجه الخير والصواب من كل مسألة.
تحديات تجديد الفقه:
الدعوة لتجديد الاجتهاد الفقهي فى راى الدكتور الترابى سوف تواجه حدودا تقيدها ووجوه ضعف سوف تلازم حركتها لأول الأمر ومنهذه التحديات والحدود المقيدة لطلاقة الحركة عسر التفقه في عصر تطاولت من ورائه عهود الجمود. فلا يتوفر للفقيه أساس متين ليؤسس عليه أبنيته الفقهية فهو ليس بحاجة لتعديلات محدودة فحسب وإنما يتعلق الأمر بجهود أصولية هائلة ليبنى أبنية فقهية كبرى وليس من ورائه ممهد ولا كثير ولا كبير مناصر. ثم أنه يجديه فى هذه المراحل التأسيسية أن يأخذ الفقه مأخذا كليا فلا مجال للتخصص قبل أن يتبين أركان البناء الفقهي وهياكله المتكاملة ذلك .والأمركذلك لابد أ، يجتمع عليه من أحاط بطائفة واسعة من العلوم الحديثة إلى أولئك الذين وإن انقطع تعليمهم الفقهي عن الواقع فقد برعوا في الفقه المأثور وإن تعسر عليهم مغزى الواقع الجديد وكنه القضايا التي يطرحها لتتجلى معالجتها بالشرع . ولابد من تنآصر هؤلاء مع أولئك المعاصرين الذين يدركون تشابك العلاقات وتعقد المشكلات الجديدة دون فهم لوجه تكييفها وفق أساليب فقه إسلامي لأنه إن لم يجتمع الفريقان نشأت حالة من قلة التفاهم بل سوئه فلابد لهؤلاء وأولئك أن يعملوا متحدين بالإئتمار والتشاور للتوفر البيئة المناسبة لنهضة فقهية ضرورية لايمكن إنجازها بخبرة فريق واحد.
ثم أن القضايا التي تنشأ فى مجتمع اليوم المحروم من التربية الفعالة والنظام المتكامل قد تتبدل معالمها متى بدأ تحول نحو الإسلام ولكن طبيعة المجتمع الإنتقالى تجعل إنتاج فقه مناسب له الفقه غاية في العسر إذ يتعقدالوضع باعتبارات الضرورات المتكاثرة ، وبمحاولات التهيؤ والتخطيط لما لم يقع . وقد يزداد النعقيد مع زيادة سرعة التحول الإسلامي ويتضاعف أيضا من جراء تسارع تطورات الحياة المادية وتشعبها وتسارع خطي التقدم التي تحتاج لمواكبة فقهية نشطة . وتلك مشكلة حضارية تجابه كل أنواع التخطيط للمجتمعات الناهضة وذلك كله يزيد الحاجة إلحاحا لمنهج أصولي يهجر المواقف الفقهية الراهنة فيتجاوز القوالب القديمة المتحجرة بينما يضبط مظاهر غياب المنهج الجديد كما تبدو في الانتقائية التي تلتقط جزافا من المنقول الإسلامي وتدعو لاتخاذ كل الأقوال علي تشعبها العظيم مرجعا للأحكام مما يؤدى إلى ” لا حركة” الفقه الإسلامي في ظروف هو أحوج ما يكون إلى التخطيط الواعي، ويبرز أيضا تحدى النزعة العقائدية التي تستغني بروح الإسلام ومقاصده عن الانضباط بنصوصه الدقيقة.لفإن مراعاة الروح العامة والإنتباه للمقاصد لا يغنى أبدا عن الضبط المنهجى لأنه لابد للمنهجية إلا الهوى متلبساً شكولاً متعددة .
ومن سمات مجتمع المسلمين الانتقالي ضعف التربية الإسلامية وآثار ثقافة جاهلية من التقاليد الأهلية أو الحياة الغربية. وفى هذا المناخ قد يتصدى للاجتهاد والفتيا مفكرون حملة علم لا يتدينون بالصلاح فكأنهم فقهاء إحترافيون أهل مهنة بلا واعز قوى من تقوى فيلتون بالفقه وبالفتيا حسب ما تهوى الأنفس . ولا يتم فقه الدين إلاّ بتوحيد العلم والعمل فلا ضمانة للرشد غلا بتناصر الفكر الصائب والعمل الصالح . ويؤكد الدكتور الترابى إن إقامة نظام كامل تزدهر فيه أحكام الإسلام فقهاً لابد له من وجود جمهور من العامة على جانب من الفهم والالتزام لأن حياة فقه الأحكام إنما يتحقق لها النهوض والتطور الإيجابى بالتفاعل بين الفقهاء والجمهور بل إنّ بعض أُصول الأحكام إنّما تنبع من قبل الجمهور وملاحظاته ورؤاه ولا تنشط وتستقيم إلاّ بقدر نصيب ذلكم الجمهور من الوعي الفكري والتزكي الأخلاقي.
ولا شك أن كل اجتهاد فقهي لا يخلو من التأثر بواقع التطبيق ولذلك فإن فقه هذه المرحلة الإنتقالية سيعاني من آفات المنهج التطبيقي للإسلام فإذا انتصرت إرادة إسلامية انقلابية كلية تنشد تمكين الدين جملة واحدة جابهتها وجابهت حركة فقهها مشكلات التدرج فهى فى للتريث لتحضير المشاريع الفقهية اللازمة للدولة الحديثة ويرتبك الأمر بين عجلة الحاكم وبطء الفقهاء المولعين بالحذر الشديد في تحضير المشاريع وخشية من أن تتسارع خطى التطبيق فتصادم واقعاً لم يتهيأ .وربما يفتتن الحاكم المتعجل فيرتد على الأحكام تمرداً بضغط النوازل عليه .والترابى إنما ينطلق من تجربة واقعية عندما يقرر أن تقدير الضرورات الانتقالية أمر شائك والموازنة دقيقة بين التلكؤ المبطئ والاقتحام المتعجل.
وقد يأتى الخطل من تطبيق الإسلام عن طريق إدخالات جزئية يجريها حكام كارهون لخيار الاسلام يسترضون بها ضغوط العاطفة الشعبية المنفعلة بحب الإسلام ففى حالة مثل هذه فإن التأسيس القانوني سيكون عرضة للترقيع والتلبيس إذ يقتصر علــى الأمور المشهــورات التي تسترضى المطالب العمومية وتزيينات إسلامية لتشريعات وضعية الروح. ثم إنّ الحملة الشعبية قد تتخذ منهجاً اعتراضياً سالباً إذ تستهدف إزاحة ما يخالف الإسلام نصاً قبل أن يتهيأ له بديل بالاجتهاد الإسلامي المعاصر. أما ما وراء ذلك مما يجافيه روحاً فإنّ الرأي العام الإسلامي يستصحب صحته بحجة أنّه لا يخالف الكتاب فتتخذ الحملة جنوحاً سلبياً لا يشجع على التطبيق أو الاجتهاد الإيجابي ولا يعلى وضع النماذج والنظم المتكاملة التي تستدعي جمهوراً واعياً وقيادة مؤمنة ومنهجاً متوازناً فيه اتخاذ الإسلام هادياً وضابطاً سالباً.
وتتمثل المشكلة الكبرى لحركة التجديد الفقهي في مواجهة التحدي الوضعي العصري وإنّ لها مثلاً من تأثر الفقه الإسلامي في نهضته الأولى بالثقافة الهيلينية ولكن القياس بعيد لأننا اليوم نقوم في مقام ضعف شديد إزاء ثقافة تتحكم في تسيير الأوضاع الاجتماعية التى هى قاعدة الفقه وفي توجيه العلوم كافة لاسيما إن فقهنا سينشأ في كنف القانون الوضعي القائم وفي مهب رياحه التي تعصف وتجىء في صحبة كل نمط من الحياة نستورده من أوربا في سبيل النهضة مما يغري الناس بالاستسلام لما أستقر عليه القانون الوضعى والعزوف عن اجتهاد غريب لم يجرب في نهجه أو أثره وإذا اقتصرنا على الوجه القانوني في المشكلة جاز لنا أن نقول إنّ نهضتنا الفقهية ستتخذ في أول مراحلها منهجاً مقارناً إذ لا مناص من أن يشارك فيها قانونيون ذوو تربية غربية وأن نلجأ لملاحظة القانون الغربي لنستبين كيف تطرح إلا قضية العصرية في أنماط الحياة التي مهدها كلها الغرب وكيف تكون وجوه المعالجة المتاحة والاعتبار بالسُنن القانونية العالمية والفنون التحليلية الفقهية ولكن المقارنة قد تغري بالغفلة عن اختلاف الأُطر الاجتماعية وتباين قيم العدل وقد تثمر قانوناً منعزلاً عن العقيدة والوجدان وعن الأخلاق والأدب وهي أخطر سمات الحضارة الأوربية الاشتراكية التجزيئية أو يثمر فقهاً توفيقياً تلفيقياً يفتقد الوحدة الأصولية التي تضمن الصحة والفعالية.
بناء قدرات الفقيه المعاصر:
والدكتور الترابى لا يقلل من صعوبة التحدى ولا من المسؤولية بالتهيؤ له بالثقافة اللازمة والأدوات الفكرية والمنهجية . فإن تحضير المادة الفقهية للبحث الاجتهادي وتهيئتها للتشريع أو لوضع السياسات والقرارات الحكمية أو الأحكام القضائية يستوجب عملا دقيقاً دؤوباً. كما يستوجب إستعداد متطورا وإستفادة واسعة من فقه اللغة المتطورة لتفسير النصوص والتعبير عن الأحكام . فقه القرآن والسنة من علومهما . وتاريخ التطبيق الإسلامي أحكاماً وسيراً .وتاريخ مذاهب السلف في طرائق الاجتهاد وفي التفقه الفرعي .وإحاطة مناسبة بالمنطق والفلسفة ومنهج العلوم .وفهما متعمقاً الديانات والمذاهب فكراً وتاريخاً للمقارنة والاعتبار .وإدراكا لواقع المجتمع وعلومه وتاريخه المقارن . وقدراً مناسبا من فهم الطبيعة وعلومها وواقع البيئة التي تسري فيها الأحكام .فليس الأمر أن يتصدى للمهمة من ليس له الإستعداد لها وإنما إن تعسر إجتماع كل ذلك على مستوى الأفراد فلابد من مجمعات يجتمع فيها من تتوفر بتشاورهم وتكاملهم العدة العلمية والمنهجية اللازمة التى سبق الإيماء إليها.وأهلية من يقوم بهذا الأمر لا تنحصر فيما ذكر وإنما لابد من إقتران التدين العملى المتصف بالتقوى والصلاح مع التجربة البصيرة الحكيمة والتحلى بالأمانة والتجرد لأنه لايكون فقه فاعل صادق إلا باتحاد العلم والوعى بالعمل الصالح والتقوى.وبلا شك فإن ما ذكر لم يذكر ليصدر به فرمان سلطانى يمنع من لا تتوافر فيه الشروط وغنما تنظم هذه الأمور بالمجالس التخصصية والإجازات العلمية والمقبولية العامة كما هو الشأن فى عالمنا المعاصر.فلا حاجة لضبط يعتقل كل مبادرة ولا سبيل إلى فوضى يختلط فيها الحابل بالنابل.
التجديد حركة مجتمع:
والدكتور الترابى الذى له مبادرات وإجتهادات متعددة فى مناحى فرعية وأصولية لم يذهب إلى تفصيل كيفية هذه النهضة الفقهية فهى مثل البناء لا تكتمل معالم تفاصيله إلا بإكتمال أبنيته فى الواقع. وهو بناء هائل ضخم يتوجب أن يتوفر على القيام بعئب رفع قواعده فئام كثير من العلماء والفقهاء وأهل الفكرة والخبرة يناصرهم جمهور غفير يتصف بالوعى وبالرغبة الصادقة فى التمثل بأحكام الاسلام وقيمه وأخلاقه لينهض ويتقدم فى ركاب الحضارة أماماً لا تابعاً وشاهداً لا مشهوداً عليه، كما شاء الله سبحانه وتعالى للأمة الإسلامية أن تكون خير أمة أخرجت للناس تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتؤمن بالله، وكفى بالله هادياً ونصيراً.
د. أمين حسن عمر