جفت المواسير وسال البمبان
قال تعالى: (وجعلنا من الماء كل شيء حي) صدق الله العظيم..
إذن الماء هو سر الحياة، فلا حياة بلا ماء..
وحين يفقد الإنسان الماء، ما الذي يبقى له..
وحين لا يجدها فما الذي يمكن أن يجده..
هل يجد اللقمة الهنية والفرش الوثير والراحة والدعة…
هب أنه وجدها كلها، فماذا تعني له حين لا يجد الماء…
المؤكد أن حياته ستبقى بلا معنى… ووجوده سيكون بلا قيمة، هذا إن بقي على قيد الحياة حتى يجد الماء.. الماء هو أولى الأولويات وأهم الاحتياجات الضرورية على الإطلاق…
بها نحيا وبعدمها نموت…
قطع الأعناق ولا انقطاع المياه…
وسكان حارات الحلة الجديدة والقوز والرميلة الذين عانوا لأيام من شح المياه الذي تطور إلى ندرة ثم أضحى عدم، لم يقطعوا ولا عنق واحد، وكل الذي فعلوه هو أنهم تجمهروا وقطعوا الزلط تعبيراً عن حقهم في الحياة، ويا روح ما بعدك روح، ولهذا لم أكن أتصور أبداً أن يُفعل بهم الذي فُعل بهم…
قد أتصور اعتقال سياسي معارض بسبب مواقفه وآرائه السياسية…
وقد أتصور اعتقال فلان وفلان وفلان من الصحافيين بسبب كتابات وأخبار صحفية…
وقد أتصور قمع مظاهرة ضد ارتفاع أسعار الخبز والسكر والمحروقات…
وقد أتصور حظر هذا وتلك وذاك من الناشطين من السفر خارج البلاد للمشاركة في أحد المؤتمرات…
وقد أتصور اعتقالي بعد نشر هذا العمود…
ولكن لم يخطر ببالي أبداً أن تُواجه تظاهرة قوامها الأكبر من النساء والأطفال، لم ترفع شعارات سياسية ولم تطالب بحريات صحفية ولم تحتج على خروقات لحقوق الإنسان ولم تقل إنها خرجت للتعبير عن طول انتظارها لمخرجات الحوار الوطني، ولا هتفت بأن عوائلها قد فقدوا وظائفهم منذ مجزرة ما يسمى بالصالح العام، ولا نادت بتشغيل أبنائها العطالى، ولا احتجت على الوجع الذي تكابده ولا على المعالجة الغالية التي تكتوي بنارها ولا على ارتفاع كلفة التعليم الذي لم يعد يقدر عليه إلا الراسخون في المال، بقدر ما في جيبك يكون تعليم ابنك، ولا.. ولا.. ولا مما تعدون من كرب وضوائق ناء بحملها كاهل المواطن الغلبان.
فقط طالبت هذه التظاهرة الاحتجاجية بحقها في الحياة، مجرد جرعة ماء تبل العروق وتُذهب الظمأ، ولكن وبدلاً من أن تُسيّل السلطات لهم الماء من صنابيرهم التي جفت، إذا بها تمطرهم بسيل من القذائف المسيلة للدموع وتضربهم للمفارقة بـ(خراطيش المياه)، فسالت الدموع من مآقيهم في الوقت الذي كانوا يتوقعون منها أن ترأف بحالهم فتسعفهم بجرعات ماء لا أن تقذفهم بقنابل الدخان الحارق…
لا ندري لماذا يتعذر الحصول على الماء في هذه العاصمة التي يشقها نيلان ونهر، ولا ندري لماذا تتعثر الحلول على كثرتها، ولماذا لا تأتي الوعود أكلها على تواليها من والٍ إلى والٍ، هل ذلك لأسباب موضوعية هيدرولوجية، أم لأخرى إدارية وتمويلية، إن كانت الأولى فتلك مشكلة لا تبرئ ذمة الولاية، وإن كانت الثانية فوزرها بالكامل على الولاية، فليس فوق الماء شيء يمكن أن تعيره الولاية اهتمامها الإداري وسخائها المالي، فلتنظر الولاية ماذا هي فاعلة بهذه المشكلة الحقيقية غير المختلقة ولا المصنوعة، فلا هي من اختراعات الطابور الخامس ولا هي من تخرصات المغرضين والمرجفين في المدينة، مشكلة حساسة واحتياج حيوي، تحتاج إلى بذل الجهد ولن يحلها حتى الرمي بالهاون دعك من قنابل البمبان.
shfafia22@gmail.com