كلنا يعرف أن كتابة العجائبي، أو الغرائبي، أو الواقعي السحري، جزء من حيل الكتابة السائدة، التي تتطور باستمرار، كلما اندثر جيل من الكتاب، وأطل جيل جديد، ومن مشاهداتي، لا أجد أي نوع من الكتابة، حتى الواقعي الصرف، والمستوحى من السيرة الشخصية للكاتب، قد اندثر، وإنما هو باق ويتجدد باستمرار، ولا شك أن الأفكار الجديدة، المستوحاة من تطور الحياة والمجتمعات، وإمكانية التواصل مع كل شيء، والتقاط كل شيء، يعتبر من العوامل المساعدة، على التجديد.
في الماضي، كان هبوط الروسي، يوري غاغارين، على سطح القمر، مثلا، يعد حدثا غرائبيا، قد تستوحي منه الكتابة، وتحاول أن تنقله بأدوات الأدب، إلى أكبر قدر من القراء، كان خروج قطار عن القضبان وانقلابه وموت عدد كبير من المسافرين، مرشحا بشدة، ليصبح حدثا روائيا، يتخيل فيه الكاتب، حياة كاملة لكل ضحية، ويربطها بالمأساة، وكان يوجد في مدينة بورتسودان، على شاطئ البحر الأحمر، مجنون متشرد، أبيض اللحية، لا يعرف أحد اسمه، لكنه يسمى: ابن السارة، أو ولد السارة باللهجة الوطنية، كان شخصية مميزة، يحفظ أرقام باصات النقل العام، ويمكن أن يتعرف على أي باص مقبل من بعيد، من صوت الماكينة فقط. كان الرجل من الذين خرجوا أحياء من حادث: أوبو، وهو حادث مؤلم، نتج عن خروج قطار من قطارات الركاب، عن مساره واحتراقه، وموت معظم مسافريه، في سبعينيات القرن الماضي.
ابن السارة هذا، كان من المفترض أن يكتب في ذلك الزمان، رجلا غرائبيا، يصنف مجنونا في معظم الوقت، وعبقريا أحيانا، كل ما فيه يلفت نظر الإيحاء، وأقل الإيحاءات تجاوبا، تستطيع أن تستخرج منه حكايات مشوقة. لقد رأيت ذلك الرجل وكنت صغيرا، ورأيته عن قرب حين عملت في المستشفى، أوائل التسعينيات من القرن الماضي، وكنت روائيا معطلا، منغمسا في مداواة المرضى، وبلا أي أمل في كتابة جيدة، أو رديئة، وكان هو بدروشته، وجنونه، وثيابه التي يهديها له الناس نظيفة، ولامعة، ولا يرتديها، حتى يمرغها في التراب، وتتسخ حتى يضيع لونها، متوافرا بشدة في المستشفى، يعتبرها محطة، للنوم، ولملمة الصدقات من المحسنين العابرين هناك.
هذا العجائبي، لا يصلح في هذا الزمن، من المؤكد أن أي فكرة في شأنه، لن تقدم جديدا، وقد كبرت الحكايات، وكبرت الكوارث، وازداد ترنح القتلى، في كل يوم، وكل مكان، وبشتى أدوات إبادة الأرواح، بما يؤكد أن حادث أوبو الكارثي في زمانه، الذي خرج منه ولد السارة، بلا عقل، مجرد تسلية بريئة للموت، وليست كارثة على الإطلاق.
أيضا عرفت في أيام السبعينيات تلك، شخصية عجائبية أخرى، عرفتها المدينة، ووثقتها في قصتي: مرايا ساحلية، من ضمن شخصيات أخرى. ليس بمعلومات كاملة عن الشخصية، وإنما بمواقف عامة، كنت أشاهدها فيها، وتشاهدها المدينة كذلك، المرأة: مارغريت، جامعة الورق كما تسمى، صاحبة الجنون النظيف، وهذه صفة أطلقها عليها، وقد عهدنا الجنون في الغالب، متسخا، مزريا، وعنيفا، يجر صاحبه إلى الطرق الموحلة، والمزابل، ويحمله وزر اختراع ضحايا، بلا أي سبب. مارغريت كانت هادئة جدا، ونظيفة جدا في فساتينها، وربما متأنقة أيضا، كأنها تجاوزت الستين حين عرفتها في ذلك الوقت، ويبدو أثر السن واضحا على وجهها الأبيض الخالي من أي تعابير توحي بالجنون أو غيره، إنها تسعى في الشوارع، تنحني على الأرض، تلم الورق من أي مكان، تضعه في سلة تحملها، ويصبح الطريق الذي تعبره، نظيفا آخر اليوم. وحقيقة لم أسأل نفسي في تلك الأيام، واستغربت كيف لم أسأل نفسي سؤالا واحدا: من أين تأتي القبطية، جامعة الورق؟ وإلى أين تذهب، حين تغيب عن الشوارع؟ ومنذ فترة قرأت في صحيفة محلية، تصدر في الخرطوم تحقيقا عن تلك السيدة، الغرائبية، ومعه صور بالأبيض والأسود، لفتاة مليحة، ترتدي ملابس قصيرة، وتقود دراجة هوائية، وذكر التقرير، أنها مارغريت ، جامعة الورق، التي فقدت عقلها، من جراء قصة حب عميقة، وفاشلة. وبالطبع لا يمكن أن نصدق، أو نكذب تقريرا كهذا، لكننا نكمل قراءته، بدافع الفضول.
مارغريت أيضا، كان من الممكن أن تكون مشروع نص غرائبي محكم، في ذلك الزمان، أن يُصنع لها ماض، يليق بنظافة جنونها، أن يدون حاضرها النظيف ذلك بترو، وتضاف له البهارات اللازمة، وأن يتريث من يكتبها في صناعة مفاجآت ما، قبل أن يفاجئنا بدفنها في مقبرة بلا اسم، ولا شاهد.
ما ذكرت كان يمكن أن يكتب في الماضي، لأن الحاضر من زاوية الحب الذي يقود إلى فقدان العقل، أيضا تغير، تطورت قصص الهجر والنسيان، وتعذيب الحبيب كثيرا، ولم يعد من السهل أن تجن امرأة، لمجرد أن حبيبا خانها، أو يتجول رجل كان محترما، حافيا، ويجمع الورق في الشوارع، لأن امرأة تخلت عن حبه، وأحبت غيره.
الآن توجد وسائل تواصل، يمكن بسهولة شديدة، أن تستبدل فيها المشاعر العميقة حتى، بمشاعر جديدة، عميقة، وقابلة للتجديد أيضا. سيحب العضو في موقع تواصل مملوء بالقصائد، والخواطر الرقراقة، «والإستايلات»، فتاة في كل بلد، وكذلك قد تحب الفتاة، عشرات المواقف، ولن تصدم إن ذهب من ميزت مواقفه أكثر، وحلمت ولو بحلم طفيف، أنه رجل مستقبل.
لا مجال لولد السارة في هذا العصر، ولا مجال لمارغريت العاشقة، إن صح التقرير، وجامعة الورق، التي شهدناها كلنا، وعاصرنا نظافتها. الأدوات تغيرت، والأفكار تغيرت، وكذا توجد شخصيات ومواقف كثيرة، انتهى وميض إيحائها، ولن تشع إلا إشعاعا خامدا.
روائي سوداني
41Share on Facebook41