صادف أمس الأول الخميس الذكرى 27 لتولي الرئيس عمر البشير السلطة في السودان عبر انقلاب عسكري؛ بيد أن هذه الذكرى مضت في صمت حكومي متعمد كما حدث في السنوات القليلة الماضية. قبل ذلك كانت هذه الذكرى لا تمر إلا وسط صخب احتفالي فسيفسائي محتشدٌ بكل زُخرفٍ وزينة، ويسخّر الإعلام الرسمي للإعلان عن افتتاح مشاريع تنموية جديدة. فهل نضب معين الإنجازات والمشاريع؟ أم لأن في الصمت تناسي لخطأ الانقلاب بعد أن جرت مياه كثيرة تحت الجسر؟
كما هي اليوم انحدرت لدرك سحيق من المعاناة؛ كانت حياة السودانيين بعيد الانقلاب تمور مورا شديدا بالأعباء وبالصعاب، ليس هذا فحسب بل وبالصراع السياسي العبثي..هكذا رأى العميد – حينها – عمر البشير ورفاقه من أعضاء مجلس قيادة (الثورة) أن البلاد في وضعية مأسوية تجبر كل وطني غيور أن يرثى لحالها ويسرع لنجدته وإنقاذه..كانت الجمعية التأسيسية (البرلمان) تنعقد وتنفض وسط ممارسات حزبية ضارة بالعملية الديمقراطية ومرتعا لطبخات سياسية شديدة السٌّمية.. أما عامة الشعب المسكين لم يجد من جواب لتداعيات قلبه المكلوم بفلسفات السياسيين والتنفيذيين.
وسط تلك الأجواء السياسية المكفهرة كانت الغيوم تجري تسوقها رياح التغيير للأحسن مبشرة بفجر جديد.. في صبيحة يوم الجمعة 30 يونيو 1989م، ارتفع أزيز المارشات العسكرية عاليا في إذاعة أمدرمان الرسمية كانت القلوب المشرئبة تسأل من هو ذلك الضابط الذي يحمل روحه بين يديه ويُقدم على انقلاب عسكري..صحيح أن انقلابا (ناعما) سبقه على ما عرف بالديمقراطية الثالثة، إلا أن هذه المرة يبدو فيها الأمر جللا وصاعين مقابل صاع..مذكرة الجيش السابقة للانقلاب التي أرعبت رئيس الوزراء – حينذاك – السيد الصادق المهدي، كانت انقلابا فرض على المهدي حكومة بعينها وأجبرته على حل حكومته التي كانت تشارك فيها الجبهة الإسلامية القومية بزعامة الراحل حسن الترابي، وتشكيل حكومة جديدة من دونها سميت بحكومة القصر..من ضمن الأسباب التي ساقها البشير مبررا انقلابه على السلطة القائمة أن الجيش انزوى في عهد الأحزاب إلى ركن قصي من اهتمامات الساسة المتشاكسين في حلبة الصراع المستمر..كان أفراد الجيش يمشون حفاة عُراة بين أحراش الجنوب وهم مطالبون بمواجهة تمرد الحركة الشعبية في جنوب البلاد.
لكن البعض ممن يتذكر البيان الأول وما أشار فيه قائد الانقلاب إلى أن ما دعاه إلى الانقلاب يبدو اليوم كما كان قد أشار إليه حينها في بيانه بقوله: “مؤسسات الحكم الرسمية لم تكن إلا مسرحا لإخراج قرارات السادة”، اليوم يرى أولئك أن مؤسسة مثل البرلمان لا هم لها إلا الموافقة غير المشروطة على قرارات الحكومة.
ووافقوا على تعديل للدستور هدف إلى تقليص صلاحيات ولاة الولايات وفي ذلك تراجع عن الحكم الفيدرالي ووعود توسيع قاعدة الحكم..كذلك جاء في ذلك البيان: “لقد تدهور الوضع الاقتصادي بصورة مزرية وفشلت كل السياسات الرعناء في إيقاف التدهور ناهيك عن تحقيق أي قدر من التنمية” وهذه حالة ماثلة اليوم..وسياسيا كان أكبر إخفاق انفصال جنوب البلاد في عهد (الإنقاذ)، رغم تقرير المصير طرحته أحزاب سياسية أخرى قبل مجيء (الإنقاذ).
ولكن قبل انقلاب البشير هل كانت قوى سياسية جديرة بالديمقراطية؟ ألم تبصم القوى السياسية بالعشرة طائعة أو مكرهة على تداعيات مذكرة الجيش؟ والسؤال الملح لماذا تقدم ضباط الجيش أصلا بمذكرتهم أو انقلابهم؟ أليس بسبب سوء إدارة القوى السياسية لمشكلات البلاد؟ هل كانت الأحزاب الكبرى التي كانت على سدة السلطة تُمارس الديمقراطية داخلها حتى تمارسها برشد خارجها ففاقد الشيء لا يعطيه؟
وكيف كان سيكون الحال لو أعطيت القوى السياسية كامل الفرصة لتتعلم الديمقراطية وكم يستغرق ذلك من الوقت؟ وهل كان السودان سيظل متماسكا حتى ينصلح حال الممارسة الديمقراطية؟ بالطبع البعض يعتقد أن رمضاء الديمقراطية على علاتها أهون من نار الحكم العسكري.
في تاريخ السودان المعاصر قصص كثيرة عن إغواء السياسيين للعسكر وهم يكيدون لبعضهم خروجا عن قواعد اللعبة الديمقراطية؛ من هذه القصص تسليم عبدالخليل وكان رئيسا للوزراء في أول حكومة بعد الاستقلال وقد سلّم السلطة لقيادة القوات المسلحة ممثلة في الفريق عبود في 17 نوفمبر 1958م وكان من أبرز المؤسسين لـحزب الأمة وانتخب كأول سكرتير عام للحزب. كذلك الشيوعيون الذين جاءوا مع انقلاب الرئيس الأسبق جعفر نميري في 25 مايو 1969،.
وحاولوا الانقلاب عليه لاحقا. ثم تحريض الدكتور الترابي لمجموعة البشير للانقلاب حتى إنه قال في حواره مع قناة الجزيرة أن البشير حتى قبل يوم لا يعلم بالانقلاب وتوقيته.