أسمع وأقرأ باستمرار كلامًا مفاده أن جيلنا كان رومانسيا، ودليل القائلين بذلك أننا كنا نقرأ ونحفظ الشعر الجميل ونحرس على اقتناء المطبوعات الثقافية! وحتى لو اعتبرنا قراءة شعر نزار قباني أو عمر بن أبي ربيعة ضربا من الرومانسية فهي رومانسية نظرية أي ليست تطبيقية، ولا تختلف كثيرا عن رومانسية النابغة الذبياني وتأبط شرا وبقية جماعة: أحبها وتحبني/ ويحب ناقتها بعيري! ويقولون إن جيلنا كان ينتظر بفارغ الصبر حفل أم كلثوم في أول خميس من كل شهر ويظل جالسا قبالة جهاز الراديو لمتابعة معلقاتها! هذا يا جماعة الخير، لم يكن بسبب كوننا رومانسيين، بل بكوننا متبطلين ولا قيمة للوقت عندنا، فالطموحات كانت متواضعة ومن ثم كانت أوقات الفراغ أطول من أوقات العمل، وأم كلثوم كانت تؤدي الأغنية الواحدة في خمسين دقيقة ثم يصيح الجمهور: الله الله.. كمان يا ست، فـ(تمط) الأغنية وتمددها نصف ساعة أخرى.
ثم هل يريد من يزعمون أن جيل الآباء والأجداد الحالي، القول إن جيل الشباب المعاصر بعيد عن الرومانسية لغياب أم كلثوم وفايزة أحمد والمتنبي عن الساحة؟ بذمتكم من هو (الرومانسي)، من يهيم بهدى سلطان وتحية كاريوكا وشكوكو؟ أم من يتعلق بالعجرمية والهيفاوية؟ كلك نظر يا….! أما الزعم أن جيلنا نهل الرومانسية من روايات إحسان عبدالقدوس فصحيح مائة بالمائة، فقد كانت رواياته بالنسبة إلينا كمراهقين أجنحة نحلق بها في سماوات الحب والغرام والحرام، وأعترف بأنني شخصيا عشت حينا من الدهر وأنا مقتنع بأن سعاد حسني تحبني كما أحبها وأن التقاءنا على كورنيش النيل في القاهرة ثم التوجه إلى المأذون مسألة وقت، رغم معارضة الأهل (أهلي طبعا بزعم أنها لا تستأهلني).. وما أن سرت شائعات بأن عبدالحليم حافظ خطفها مني، حتى هب إحسان عبدالقدوس لنجدتي فقد تحولت إحدى رواياته إلى فيلم من بطولة نادية لطفي فوقعت في غرامها من أول نظرة وكنت أحرم نفسي من وجبة الإفطار في المدرسة لتوفير النقود لمقابلة بنت لطفي في دور السينما… هل رأيت كيف كان الخط رفيعًا بين الرومانسية و(العبط) عند أبي الجعافر؟ وبالتالي عند كثيرين من أبناء جيله.
والنقطة التي أتفق فيها تماما مع الزعم بأننا فعلا كنا رومانسيين فتقتصر على الأمور السياسية: وحدة عربية لا يغلبها غلاب.. حرية اشتراكية وحدة.. ويلك يللي تعادينا يا ويلك ويل.. اشتراكية تجعل الفقر فعلاً ماضيا لا مكان له من الإعراب. والله زمن يا سلاحي! ما أُخذ بالقوة لا يُسترد بالملوخية. وباستثناء هذه النقطة فإن ما يقال عن رومانسية جيلنا ضرب من تقديم العزاء للنفس! ولعلك يا صاحبي (الرجل) تنظر إلى عيالك في البيت وهم يتعاملون مع الكمبيوتر بأكثر من براعة جيلنا في طاولة الزهر والكنكان، أو يديرون معارك البلاي ستيشن بمهارة يحسدهم عليها جنرالات أمريكا الخائبون الذين عجزوا حتى عن تنظيم حركة المرور في بغداد.. تسمعهم يتحدثون عن غوغل وفايبر وواي فاي، فتحس بالغيرة وتلجأ إلى سنام الذاكرة طالبًا العزاء في وقائع غابر السنين! وتنسى أنك في شبابك كنت تظن أن «رومانسي» تعني أن الشخص من سكان العاصمة الإيطالية روما.