التوثيق ذاكرة الشعوب والأمم، خاصة لكبار علمائها ومفكريها، ومن لهم وزن اجتماعي وتجارب عملية وعلمية تستحق التوثيق لها لفائدة الأجيال القادمة، للأسف الكثير من التراث والتجارب لم يوثق لها تركت نهبًا للشفاهة فاغتالتها، ولم تجد حظها من التوثيق الكتابي بحيث تُحفظ للاستفادة منها.
وأثناء بحثي في أضابير أرشيف صحف دار الوثائق القومية تأكدت لي أهمية التوثيق الكتابي في الرصد لهذه الندوة المهمة التي قدمها الدكتور الراحل (التجاني الماحي) في دار الاتحاد النسائي عن الزار وأسبابه، ومن أين جاء ومتى دخل السودان؟ ومن هم شيوخه؟ وما هي البلاد المنتشر فيها؟ وما هو التفسير العلمي لشفاء المزيورات؟ وغيرها من حيثيات الندوة التي وثقت لها صحيفة (الأيام) الصادرة في 25 /9/1958 وكل هذه الأسئلة أعلاه أجاب عنها الدكتور التجاني الماحي طبيب الأمراض العقلية والعصبية في محاضرته القيمة التي ألقاها بدار الاتحاد النسائي بأم درمان.
خلفية الزار
والدكتور التجاني الماحي حجة في موضوع الزار، فقد أنفق عدداً كبيراً من السنوات في دراسته وألف عنه كتابا أعده للطب، وقد امتلأت دار الاتحاد النسائي بالسيدات كبيرات السن والفتيات المثقفات، وقد جاءت كل واحدة منهن لتعرف ما هو الزار أو لتزداد معرفة به، وإليكم ما دار في الندوة..
قصة الزار كما رواها الدكتور التجاني الماحي قصة طريفة ممتعة.. فقد عرف أول ما عرف في بلاد الحبشة، ومما يؤكد ذلك أن (يوسي وبوسري وأولاد ماما والريكامو) وهي أسماء لشيوخ الزار كلها أسماء حبشية، ويؤكده أيضا أن كلمة (زار) نفسها كلمة حبشية أمهرية معناها الشياطين، وقد هاجر الزار من الحبشة إلى مصر والسودان، وبعد أن استقر في موطنه الجديد أخذ يتأقلم مع البيئة والمجتمع، وبدأ ذلك بأسماء شيوخه، وقد ظهرت في مصر أسماء مصرية وقبطية مثل جرجس وميخائيل وغيرها من الأسماء، وفي السودان (أبو جلابية والكباشي والمجدوب)، والزار منتشر أيضاً في الكثير من بلاد شمال أفريقيا وأسماؤه وطقوسه في كل بلد تتفق وحالة البلد ومشاكلها.
دخوله إلى السودان
عرف الزار في مصر نحو سنة 1880 أما في السودان، فقد عرف نحو العام 1905، وكان الزار بالنسبة للمرأة في العهود السابقة وسيلة للهروب من المشاكل التي تقابلها خاصة المرأة الفقيرة التي تشتهي الثياب والحلي الذهبية وليس لها وسيلة للحصول عليها إلا الزار، والمرأة المقهورة من زوجها لا تجد طريقاً للتنفيس عما تحس به من كبت وإذلال إلا عن طريق الزار، وقد أوضح الدكتور التجاني أن كل هذا كان يتم لا شعورياً، فالمرأة لم تكن تتعمد (النزول) أو تتظاهر به وإنما كانت تعتقد في الزار فعلا وتؤمن به. وقال: الزار قد اختفى أو كاد يختفي في السودان على الأخص في المدن وبين الفتيات المثقفات اللائي لم يعدن يؤمن به، وبعد أن وجد الطب النفسي، وهو أقدر على حل المشاكل التي تقابل المرأة.
وسيلة للعلاج
وأكد الدكتور التجاني أن الزار ليس مرضاً وإنما هو وسيلة بدائية لعلاج المرض، وإذا كانت بعض المريضات يشفين بواسطته، فما ذلك إلا عن طريق الإيحاء النفسي لاعتقادهن القوي فيه، ومما يقوي هذا الاعتقاد الطقوس التي تلازمه من ضرب وغناء وبخور.
وتحدث الدكتور التجاني كثيراً عن شيخات الزار، وقال إن بعضهن يتمتعن بمقدرة فائقة على معرفة السبب الأساسي للمشكلة، وهن دائما يخترن الشيخ الذي يكون في طلباته علاج لهذه المشكلة. وقال إن بعضهن مجددات فهن دائما يستنبطن طرقا جديدة ولديهن كثيراً من الأسماء تتماشى مع تطور الحياة.
وأورد المحاضر كثيراً من الأمثلة للتدليل على أن الزار ما هو إلا وسيلة من وسائل الهروب من مشاكل الحياة، فالنساء اللاتي يسيء أزواجهن معاملتهن يمسكهن دائما (البواب)، وهن لا يشعرن بالراحة إلا بعد أن ينزلن ويصحن: “هاتوا البواب واضربوه” والبواب هنا رمز للزوج.
رمز الزواج
و(الحكيمباشي وسليمان البداوي) رمز للزواج، وهما متخصصان في الفتيات اللاتي لم يتزوجن وجميع شيوخ الحبش لا تخرج طلباتهم عن الملابس والحلي الذهبية، وأغلب من ينزلن في (خيوط) الحبش هن من النساء الفقيرات.
ومن أطرف القصص التي رواها الدكتور التجاني في محاضرته أن زوجة أحد البصراء المشهورين أصيبت بألم في فخذها وظل زوجها يعالجها أكثر من شهر دون أن تشفى مع أنه متخصص في علاج أمثال المرض الذي كانت تعاني منه، واتضح بعد ذلك أنها كانت غير راضية عن زوجها، وأمكن بعد ذلك أن يفسر موقفها منه بأنها أرادت لا شعورياً أن تخزيه وتظهر عجزه.
توثيق – أماني شريف
صحيفة اليوم التالي