منى عبد الفتاح : بالعربي الفصيح في جامعة بكين

بعد محاضرة قدمتها الشهر الماضي في جامعة بكين، أخذتني طالبة الماجستير الصينية فاطمة – التي تتقن ثلاث لغات: اللغة العربية واللغة التركية بالإضافة إلى لغتها الأم الصينية – في جولة حول الجامعة، كلفها بها مدير قسم اللغة العربية في كلية اللغات الأجنبية بروفيسور لين فينغمين (عامر) ونائبه دكتور جواد تشاوتشيون ليان.
وفي أريحية كاملة قمت رفقة الطالبة التي لم يتجاوز عمرها الخمسة والعشرين ربيعا بمسح شامل لأغلب أقسام الجامعة، التي تماثل مدينة مصغرة. غير الخفة والرشاقة التي يتميز بها هذا الشعب، فمضيفتي تملك ذخيرة معرفية هائلة عن أدق تفاصيل الجامعة، أكاديمياتها، العمل الطوعي فيها من رعاية الأشجار وحتى القطط التي قام الطلاب بتكوين جمعية خاصة برعايتها والعناية بها داخل حرم الجامعة.
وفي الرحاب الممتد للجامعة العريقة التي تقف شامخة منذ تأسيسها في عام 1898، والتي تعتبر إحدى أقدم الجامعات الصينية؛ يمتد البصر خضرة وأزهارا. وفي موقع مميز ترقد بحيرة ويمينغ أي (بحيرة بلا اسم) والتي تعتبر علامة مميزة للجامعة جعلت حرمها في منتهى الروعة والجمال.
أما المكان الآخر الذي أخذ شهرة طاغية فهو مكتبة جامعة بكين والتي تعتبر أكبر مكتبة جامعية في آسيا، حيث تضم 6.29 ملايين نسخة من الكتب إلى جانب آلاف الأنواع من المجلات والصحف الأجنبية والصينية والآلاف من الكتب الالكترونية. وتحتوي المكتبة على قسم خاص بالمخطوطات القديمة، وفرع للدراسات العربية، وقاعة لإقامة المعارض والندوات والمحاضرات، وقاعات للمطالعة والبحث.
وقد وقف شاخصا هناك فرع مكتبة الملك عبدالعزيز الذي تم إنشاؤه داخل حرم الجامعة عام 2013.
أدت المكتبة حسب شهادة الأساتذة دورا فعالا في إقامة الحوار الحضاري والثقافي بين جمهورية الصين الشعبية والمملكة العربية السعودية، بالإضافة إلى نشر وتعميق الوعي بمنجزات الثقافة العربية بين أوساط الشعب الصيني.
لم أستغرب أن تتنزل الرؤية العالمية للعيش المشترك وتعزيز قيم التسامح والحوار متجسدة في التطلع للتواصل الثقافي والحضاري بين أقطاب الثقافات والحضارات، ويكون هدفها إقامة هذا الفرع لمكتبة المؤسس وما يمكن أن تؤديه من دور في تداول واستثمار الموارد والمعلومات العلمية وإقامة الحوار الحضاري والثقافي والمعرفي بين البلدين.
حدثتني فاطمة أيضا عن الكراسي العلمية البحثية التي أنشأتها الدول العربية في جامعة بكين، ومنها كرسي السلطان قابوس للدراسات العربية، وكرسي دولة قطر لدراسات الشرق الأوسط. وأهداف هذه الكراسي العلمية هو تعزيز تدريس اللغة العربية، وتعزيز البحوث المشتركة بين مراكز البحوث الدولية المهتمة بدراسات الشرق الأوسط، ودعم البحوث العلمية الخاصة بالشرق الأوسط والمؤلفات المتخصصة. وكل هذا يعد دليلا على عمق العلاقات التاريخية المتأصلة بين الشعوب العربية وجمهورية الصين الشعبية، بدءا من طريق الحرير ووصولا إلى هذه الصروح الثقافية المهمة التي تهدف إلى تطوير العلاقات وتوطيدها بين الشعبين.
وحول تجربة تدريس وتعلم اللغة العربية ذكرت فاطمة أن أول قسم لتدريس اللغة العربية تم إنشاؤه في الصين عام 1946، كان في هذه الجامعة (جامعة بكين). وصل عدد الجامعات الصينية التي تدرس اللغة العربية إلى 40 جامعة، كما وصل عدد الدارسين إلى ما يفوق الألف طالب، هذا بالإضافة إلى من درسوا اللغة في البلدان العربية.
سألت فاطمة عن دوافع إقبال الطلاب على دراسة اللغة العربية، وهل كلهم مسلمون، فأجابت بأنه في البداية كان أغلب الراغبين في تعلم اللغة العربية هم من المسلمين، ولكن الآن هناك توجه على المستوى الرسمي والشعبي لمعرفة الثقافة العربية وتعزيز العلاقات في جميع المجالات، ومعرفة اللغة العربية وثقافتها وسيلة لتحقيق ذلك، لأن اللغة هي جسر التواصل بين الشعوب.
سحرني هذا الشغف الصيني لشعب يعتد بلغته وثقافته إلى أبعد الحدود، وفي نفس الوقت يتوق إلى معرفة كل شيء عن الثقافة والحضارة واللغة العربية باعتبارها حضارة حية، فهل نحن بنفس القدر مجتهدون؟

Exit mobile version