ما انفك السودانيون يتداولون النكتة الشهيرة عن ذلك الشحيح الذي سقط في النهر.. والناس يمدون إليه أيديهم ينادون بإلحاح.. هات إيدك.. وهو يتأبى بإصرار غريب.. موشكا على الغرق.. فيأتي من يعرفه حق المعرفة ليصيح فيهم.. قولوا له.. هاك إيدي.. أتذكر هذه النكتة كلما سمعت حديثا لمسؤول عن استقطاب مدخرات المغتربين.. حتى حين تتحدث الحكومة عن مزايا وامتيازات تمنح للمغتربين.. فهي لا تستحي من الإشهار الصريح أن تلك الخطوة إنما هدفها استقطاب مدخرات المغتربين.. وبمنطق الحقوق والواجبات.. أو معيار الأخذ والعطاء.. فالحكومة باستمرار تجاهر بسعيها خلف واجبات المغترب.. حتى حين يأتي الحديث عن الحقوق فهو مرتبط.. ارتباطا وثيقا بتذكير المغترب بواجباته.. وثمة سؤال محوري يطرح نفسه بقوة أمام واضعي السياسات وصائغي العبارات.. وهو: من قال أصلا إن للمغتربين مدخرات؟.. فالمدخر هو ذلك الفائض عن الاستغلال من المال.. أو ما في حكمه.. فيتم ادخاره لدواع متنوعة.. فهل كل مغتربينا الآن يملكون مدخرات حتى تلاحقهم الحكومة وتذكرهم كل صباح بإصرارها على استقطابها..؟!
الإجابة بالطبع معروفة.. حتى للحكومة قبل الآخرين.. وهي أن المغترب.. وفي 90 % من حالات الاغتراب.. حين يفي بالتزامات أسرته الصغيرة والكبيرة والممتدة.. لا يبقى معه ما يذكر.. أو ما يستحق كل هذه الضجة.. وقومة النفس من الحكومة.. ولكن هذا لا ينفى حقيقة أن ثمة تحويلات مقدرة من المغتربين.. وحتى من المهاجرين.. تأخذ طريقها إلى السودان.. صحيح أنها ليست مليارات الدولارات كما يروج البعض.. ولكنها مقدرة ويمكن أن تتحول إلى كتلة نقدية مؤثرة.. إذا توفر المناخ المعافى.. والإجراءات الصحيحة.. وقبل ذلك المفاهيم السليمة التي يتم فيها ذلك العمل.. ولعل المطلوب الآن تصحيح المفاهيم.. وإعادة ضبط المصطلحات.. فحين تتحدث الدولة عن مدخرات.. فعمليا فإن نسبة كبيرة تتعامل مع هذا الخطاب باعتباره لا يعنيها من قريب أو بعيد.. ببساطة لأنها لا تملك مدخرات.. ولكن ذات هذه الكتلة البشرية المقدرة تمارس تحويلا منتظما لجزء من دخولها للداخل لهذا السبب أو ذاك.. إذن المنطق يقول إن الخطاب الحكومي ينبغي أن يخاطب هذه الشريحة.. لا المدخرين الذين لا يوجدون إلا في خيالها العليل..!
هذه واحدة.. أما الأمر الثاني فهو أن على الدولة أن تبتدع من الوسائل والأساليب ما يشعر المغترب.. الذي هو في الواقع لا يعدو أن يكون مواطنا مقيما خارج وطنه لظرف محدد في فترة محددة.. وليس كائنا قادما من كوكب آخر.. وهو بهذا الفهم ينبغي أن يتمتع بعديد المزايا والحقوق.. والدولة في حاجة لأن تشعر هذا المواطن أن وطنه يوليه من الاهتمام ما يجدر به.. ويحفظ له من الحقوق ما يستحق.. والحكومة في حاجة للتفكير خارج الصندوق.. كما يقولون.. وتأتي من السياسات والإجراءات.. ما يقنع المغترب أن يدخل في سستم الدولة دون أن يخشى من ضياع أمواله.. فإذا كان خبراء السياسة يعتقدون أن إصلاح السياسة الخارجية يبدأ من إصلاح المناخ السياسي الداخلي.. فخبراء الاقتصاد أكثر قناعة بأن إصلاح حال الاقتصاد وتعافيه هو السبيل الوحيد لإقناع من بالخارج أن جهاز الدولة مؤهل للتعامل عبره.. ولا سبيل غير ذلك..!