بعد إسرائيل وروسيا، تبدو مصر المحطة القادمة التي تود تركيا إعادة ترميم علاقاتها المتدهورة معها. ويأتي ذلك في إطار توجه أنقرة نحو العودة إلى سياسة “صفر مشاكل” مع الجيران. فهل ستنجح في ذلك؟
في خضم التصريحات المتعاقبة من موسكو وأنقرة حول سعيهما لترميم العلاقات الثنائية المتدهورة بينهما، وبالتوازي مع الإعلان عن إعادة تطبيع العلاقات بين أنقرة وإسرائيل، يرسل رئيس الوزراء التركي بن علي يلدريم بإشارات باتجاه القاهرة، تلمح إلى رغبة بلاده واستعدادها “دون أية تحفظات” لتطوير العلاقات الاقتصادية والتجارية بين تركيا ومصر، بل ويؤكد نقلا عن “وكالة الأناضول” للأنباء أمس الثلاثاء (28 يونيو/ حزيران 2016) أن العلاقات مع القاهرة ستبدأ على المستوى الوزاري، لكن دون تحديد موعد ذلك.
وكانت العلاقات المصرية التركية قد دخلت مربع الصفر بعدما أطاح المجلس العسكري الحاكم بالرئيس الإسلامي محمد مرسي، الحليف المقرب إيديولوجيا من حكومة حزب العدالة والتنمية بتركيا. واعتبرت أنقرة بأن ما حصل في مصر في الثالث من يوليو 2013 هو”انقلاب على إرادة الشعب المصري”، كما أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان شجب الرئيس الحالي عبد الفتاح السيسي واعتبره “طاغية لا تقوم على الشرعية”.
العودة إلى سياسية التطبيع
وتأتي هذه التطورات في إطار “استدارة” وتحول في السياسة الخارجية أطلقها بن علي يلدريم بمباركة الرئيس رجب طيب أردوغان نحو توجه أكثر تصالحا يسمح لأنقرة بإصلاح علاقاتها مع الخصوم والعودة إلى سياسية “صفر مشاكل” مع الجيران، كما كان الأمر قبيل انطلاق شرارة الربيع العربي.
ولا شك أن ترميم العلاقات المتدهورة مع مصر يشكل أحد الشروط المهمة لتطبيق الإستراتيجية الجديدة، كما تم التأكيد على ذلك من خلال إشارات متكررة للساسة الأتراك حول الأهمية المتبادلة بين تركيا ومصر.
رفع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان شعار رابعة دعما لحركة الإخوان المسلمين.
الاقتصاد في المقدمة
من المنظور التركي فإن إعادة ترميم العلاقات المتدهورة ستنطلق أولا من بوابة الاقتصاد، لتشمل بعد ذلك الجانب الاجتماعي والسياسي والثقافي، وفق ما أوضحه باكير أتاجان الباحث والمحلل السياسي في شؤون الشرق الأوسط والمحاضر في جامعة أيدن التركية.
مختارات
أردوغان يلتقي مشعل قبيل تطبيع محتمل للعلاقات مع إسرائيل
غير أن الطرح التركي اصطدم بـتصريحات “عدم الارتياح” لدى الجانب المصري، كما عبر عن ذلك المتحدث باسم الخارجية المصرية أحمد أبو زيد، اليوم الأربعاء الذي تحدث عن “استمرار التناقض” و”التأرجح” بين الأفعال والأقوال لدى أنقرة، أي بين الرغبة في تطوير العلاقات وبين الاعتراف بشرعية نظام السيسي.
وتعكس تصريحات أبو زيد حسب الدكتور مصطفى اللباد مدير مركز الشرق للدراسات الإقليمية والإستراتيجية مدى صعوبة استجابة الطرف المصري للمطلب التركي، “ما دامت أنقرة لا تعترف بانتفاضة 30 يونيو ضد حكم الإخوان كانتفاضة شعبية ثانية”.
غير أن التصريحات التركية الحالية تريد الفصل بين “الانقلاب على الديمقراطية” وبين “تطوير العلاقات الاقتصادية”، وهذا ما أكد عليه رئيس الوزراء يلدريم عندما قال: “إذا وضعنا الشكل الذي تغيّر به النظام هناك جانبا وما يتعرض له مرسي وفريقه من ظلم، فليس هناك من مانع في تطوير علاقاتنا الاقتصادية”. وفي تصريحات أخرى ملفتة له حول عزل الرئيس الأسبق محمد مرسي قال يلدريم: “دعونا نترك الأمر جانبا، فالحياة تستمر على جانب آخر. نحن نعيش في نفس المنطقة، ونحن بحاجة إلى بعضنا البعض”.
التخلي عن الإخوان
وقد تم فهم هذه التصريحات على أنها تعبر عن استعداد مبدئي تركي “للتخلي” عن الإخوان، قياسا لما حدث في المفاوضات مع إسرائيل حين تنازلت تركيا عن شرطها في ضرورة فكّ الحصار عن غزة مقابل تطبيع العلاقات.
وفي سبيل “حفظ ماء الوجه فقد تعمل تركيا للوصول إلى ترتيبات بهدف تحسين العلاقات مع مصر دون أن يقال إنها باعت الإخوان المسلمين”، كما يحلل الدكتور اللّباد. وهذا ما ينذر بأن المفاوضات بين الطرفين ستستغرق وقتا طويلا بسبب تفاصيلها، “لكن في العمق وفي المضمون، ستتخلى تركيا عن جماعة الإخوان طبعا”، كما يلاحظ الدكتور اللباد.
مصر “تتدللّ”
مقابل ذلك يعتبر باكير أتاجان، أن تركيا لن تكون في حاجة إلى تنازلات. فالقاهرة تتعامل في الوقت الرّاهن من منطلق “التدلل” تجاه الطلب التركي ولها “مطالب غير منطقية” متجاهلة رغبة الأتراك في الجلوس على طاولة المفاوضات دون شروط مسبقة.
ويضيف الباحث التركي أن القاهرة قد تصبح الخاسرة الأولى، إذا رفضت الرغبة التركية في التطبيع، حيث إنها ستواجه ضغوطا إقليمية خاصة من الجانب الإسرائيلي عقب الاتفاقية الأخيرة بين أنقرة وتل أبيب، إضافة إلى ضغوط أمريكية وأوروبية محتملة. كما أن الضروريات الإقليمية ستحتم على مصر التقرب من تركيا، عاجلا أم آجلا.
بعد صداقة حميمة.. توتر وعداء بين “القيصر” و”السلطان”
يدور حاليا خلاف بين تركيا وروسيا بعد أن أسقطت أنقرة مقاتلة روسية على الحدود السورية في 24 تشرين الثاني/ نوفمبر 2015. ويدور اختبار قوة عنيف بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ونظيره التركي رجب طيب إردوغان رغم روابط الصداقة التي كانت تجمع بينهما، وهو ما يهدد العلاقات بين البلدين التي باتت توصَف كمواجهة بين “السلطان” و”القيصر”. تاريخ الصورة: 15/ 11/ 2015 في قمة مجموعة العشرين بأنطاليا التركية.
لكن منطق المقتضيات الإقليمية ينطبق أيضا على تركيا، خاصة بعد أن وجدت نفسها معزولة بين جيرانها. الموقف التركي من الرئيس السيسي هو الموضوع الذي جعل منه أردوغان موضوعا لإحدى حملاته الانتخابية. ويشكل هذا الموضوع أحد الملفات التي وجدت فيها تركيا نفسها منعزلة عن الأسرة الدولية، لأن السيسي تم الاعتراف به دوليا واستقبل على السجاد الأحمر في باريس وبرلين ولندن.
بعد أحداث الربيع العربي كانت تركيا تبحث عن موقع في مقدمة الريادة الإقليمية، غير أنها ترضخ الآن لحكم موازين القوى في المنطقة لتقر بأنها ليست اللاعب الوحيد في المنطقة. كما أن التخفيف من حدة العداء لمصر، سيخدم أيضا المصالح السعودية أحد حلفاء تركيا في المنطقة والتي تسعى من جانبها إلى اصطفاف إقليمي لمواجهة إيران. كما أن الحاجة إلى نظام إقليمي متجانس، سيلزم أردوغان، حسب الدكتور اللباد للنزول من على الشجرة الإقليمية خدمة للمصالحة المصرية التركية.
dw