طل علينا السيسي في 17 مايو الماضي أمام قائد الجيش وبعض رجاله وتحدث بلغة الحصيف، صاحب الحكمة البالغة عن «الثقة» المتبادلة مع «إسرائيل»، وتحدث إلى الكيان الصهيوني باعتباره صديقـًا؛ ناصحًا إياهم والفلسطينيين بالتوصل إلى حل لإيجاد أمل للفلسطينيين وأمان «للإسرائيليين»، كما تحدث أن معاهدة كامب ديفيد كانت الحل، وأن المفاوض الصهيوني لو كان موجودًا حاليًا ووجد حجم القوات في المناطق المحظورة في سيناء وشكلها، كما جاء في الاتفاقية، سيتعجب من موافقة الكيان الصهيوني على ما كان متعنتـًا فيه أثناء التفاوض، باعتبار مصر عدوًا، إذن فالرسالة واضحة؛ لم نعد أعداء.
إلقاء ذلك الخطاب في حضور رجال من الجيش على رأسهم قائده العام، يستدعي السؤال عن عقيدة الجيش المصري وتوجهه بعد انقلاب 2013، هل تغيرت عقيدة الجيش المصري والتي يقصد بها تحديد العدو والتهديدات التي قد تتعرض لها الدولة وكيفية استعداد الجيش لمواجهتها؟ وللإجابة على هذا السؤال يتعين تحديد العدو أولاً والتهديدات التي قد تتعرض لها الدولة وهل تغير العدو أو التهديدات ليتعين تغيير العقيدة أم لا.
سؤال العقيدة القتالية
آخر تحديث حدث للجيش المصري قبل حرب 1973 كان في عهد عبد الناصر حيث تحددت عقيدته القتالية بأن العدو هو الكيان الصهيوني وهو يمثل أكبر تهديد للدولة المصرية، وعليه يجب تحديث الجيش المصري لدخوله حرب نظامية أمام جيش الكيان الصهيوني، لذلك تشكلت كل برامج تدريبه وتسليحه والمناورات التدريبية التي يقوم بها مع الجيوش الأخرى على حرب تقليدية تستخدم فيها الطائرات والصواريخ والدبابات وقطع المدفعية.
بعد توقيع اتفاقية كامب ديفيد برعاية أمريكية عام 1979 بدأت مصر في الحصول على المنحة الأمريكية الخاصة بالجيش، والتي تشتمل على التسليح والتدريب والصيانة، وكان من أهداف الاتفاقية غير المعلنة أن يحدث تغيير عقيدة الجيش المصري، يتغير فيها موضع الكيان الصهيوني كعدو، إلا أن برقية مسربة لموقع ويكيليكس أخذت الكود CAIRO 000549 بتاريخ مارس 2009 جاء فيها أن «الولايات المتحدة سعت إلى إقناع الجيش المصرى بتوسيع مهمته بطريقة تتواكب مع التهديدات الأمنية الإقليمية الجديدة مثل القرصنة والأمن على الحدود ومكافحة الإرهاب»، لكن الوثيقة نفسها أوضحت أيضًا أن «القيادة المصرية القديمة قاومت جهودنا وهي راضية عن المضي فيما تقوم به منذ سنوات: التدرب على نزاع تتواجه فيه قوتان بمزيد من القوات البرية والمدرعات».(1)
على صعيد آخر استمر برنامج التدريب والذي يتم من خلاله ابتعاث ضباط من الجيش المصري للتدريب داخل وحدات الجيش الأمريكي، كان من بينهم السيسي وصدقي صبحي وكثير من كبار الضباط الذين يشغلون مواقع عليا في الجيش المصري حاليًا، والشاهد أن هذه الفترة أي من بعد معاهدة كامب ديفيد إلى حدوث الانقلاب العسكري كانت عملية إعداد الجيش المصري لتغيير عقيدته يعمل فقط عن طريق التدريب وليس التسليح الأمر الذي لا يتعدى بناء قناعات على فعل هذا العمل بعد فترة دون عناء أو مكابده عندما تستبدل القيادة القديمة بالقيادة الشابة التي تلقت تدريبها في الولايات المتحدة وكونت شبكة علاقات مع الجيش الأمريكي ودوائر صنع القرار فيه.
ما الذي تغير؟
قال روبرت سبرنجبورج الخبير الأمريكي في الشؤون العسكرية المصرية، والأستاذ السابق لشؤون الأمن القومي في كلية الدراسات العلية البحرية في حوار له مع موقع مدى مصر: لقد أرادت الولايات المتحدة لسنوات إعادة هيكلة الجيش المصري من كونه قوة عسكرية مصممة ومنشأة ومنتشرة في الأساس للمحاربة في المعركة الأرضية الكبيرة مع «إسرائيل»، ليصبح جيشًا أكثر فعالية في مواجهة ما تراه الولايات المتحدة مخاطر أمنية رئيسية تواجه مصر؛ لذلك، فإن حرس الحدود ومكافحة الإرهاب والمراقبة البحرية والبحث والإنقاذ والمساعدات الإنسانية، هي الأنشطة التي يحتاجها الجيش ليصبح أكثر فعالية، وذلك ما رُفض في عهد مبارك.(2)
بعد الانقلاب مباشرة أعلن السيسي عن تشكيل قوات التدخل السريع، وقال إن تلك القوات التي تم تشكيلها لأول مرة في القوات المسلحة، تأتي لتعزيز قدرة الجيش على مواجهة «التحديات التي تواجه مصر في الداخل والخارج»، وفي نهاية مارس 2014 ، أخبر الرئيس الأمريكي باراك أوباما، السيسي، أن الحكومة الأمريكية سوف تفرج عن صفقة الأسلحة التي أوقفت إرسالها لمصر منذ أكتوبر 2013.
على صعيد المعونة العسكرية قالت الولايات المتحدة أنها ستستمر في إعطاء المساعدات العسكرية لمصر بقيمة 1.3 مليار دولار سنويًا، لكن الإدارة الأمريكية تخطط لإجراء تغييرات على برنامج المساعدات الموجهة لمصر في السنة المالية 2018، فالولايات المتحدة لن تمنح مصر التمويل النقدي، والذي يسمح لمصر بشراء صفقات أسلحة بقيمة أكبر من القيمة السنوية للمعونة على اعتبار سداد باقي القيمة في السنوات التالية كضمان رمزي لاستمرار المعونة من ناحية، ولأن صفقات التسليح التقليدية تكون باهظة الثمن في الأساس من ناحية أخرى، في 2018 أيضًا، ستبدأ الولايات المتحدة بتوجيه التمويل نحو المعدات في أربع فئات هي: مكافحة الإرهاب، وأمن الحدود، والأمن البحري، وأمن سيناء.
على جانب آخر ما يزال الجيش يحافظ على السلسلة الهرمية المركزية التي تبدأ من لواء ثم فرقة ثم جيش أو منطقة، كما يستمر بإنفاق الأموال الطائلة على أسلحة مثل بطاريات الصواريخ من نوع أرض-جو والصواريخ المضادة للسفن والدبابات والفرقاطات البحرية، وهي أسلحة عديمة النفع إلى حد كبير في مجال مكافحة العصيان أو مكافحة الإرهاب.(3)
قابلية الجيش للوضع الجديد
تم بناء المؤسسة العسكرية المصرية على مدى عقود لتكون قادرة على خوض حرب تقليدية، وقد تم التركيز على ذلك في التعليم العسكري والتدريب طوال هذه الفترة، كما أن هناك دور دعائي في المنطقة أن الجيش المصري هو أكبر وأقوى جيش عربي، وسيظل الجيش يحاول المحافظة على هذا التصور، كذلك يعد الجيش المصري مؤسسة مركزية كبيرة وضخمة، مما يصعب عملية تحويل هذا الهيكل المركزي الضخم وإعادة بنائه مرة أخرى ليتلاءم مع الوضع الجديد المراد له.
تخلق مصالح الضباط والأفراد المجندين داخل هيكل القوة العسكرية الحالية ضغطـًا إضافيًا على القادة العسكريين من أجل الحفاظ على الوضع الراهن، على سبيل المثال، فإن التحول نحو قوة أكثر قدرة على مكافحة التمرد تساعد على تمكين ضباط الصف وقوات العمليات الخاصة على حساب القيادة التقليدية، كما أنه يؤدي أيضًا إلى إغلاق العديد من المقرات والمحطات، وكذلك القضاء على أي منصب مسؤول متعلق بهم.(4)
إذن هناك واقعان منفصلان: جزء من الجيش يتم إعادة تشكيله بشكل يتلاءم مع وجهة النظر الأمريكية-الإسرائيلية لمكافحة ما يسمى بالإرهاب سيتم توجيه المعونة العسكرية من أول عام 2018 كلها من أجل تسليحه، والتي تبلغ 80% من ميزانية التسليح للجيش المصري(5)، والجزء الآخر وهو الأكبر سيظل كما هو مع محاولة الحفاظ على صورته وتوصيل رسائل للداخل والخارج بأن الجيش سيظل أكبر جيش تقليدي عربي، والذي يسعى الجيش لتعزيزها عن طريق اللجوء إلى روسيا من أجل شراء طائرات ميج-29، وللفرنسيين لشراء طائرات الرافال والفرقاطة البحرية.
لكن سيبقى واقع مهم ينتظر الجيش المصري بعد تفعيل التعديلات الأمريكية المقترحة على المعونة، إذ كيف سيقوم الجيش بتسليح ما يمكن تسميته الآن «الجيش القديم» بباقي الميزانية المخصصة للتسليح «20%» مع العلم أن المعدات والأسلحة التقليدية أغلى ثمنًا كما ذكرنا؟ وهل ستكون القيادات الأكبر سنًا هي المخول لها إدارة الإمبراطورية الاقتصادية الآخذة في التضخم وسيكون الفعالية القتالية والمهام الميدانية للقيادات الأصغر سنًا؟ وهل سيقبل هؤلاء الصغار بترك الكعكة الاقتصادية من أجل المهام المكلفين بها دون أن يكون لهم نصيب منها؟
الانفصال والثورة
من المبكر الجزم بالوضع النهائي الذي سيكون عليه الانفصال في الجيش المصري في الفترة المقبلة وإن كان بوادر تشكله بدأت وفق الواقع المطرد، لكن ما بدا واقعًا أن جيش عبد الناصر التقليدي محتكر خطاب الوطنية المصرية قد بات في مأزق شديد، حيث يتجه بقوة إلى انفصال هيكلي هو الأول في تاريخيه، حيث سيصبح هناك قوتان مختلفتان في التنظيم والهيكل، يعزز كل منهما نقاط قوة، فالقوة الأولى يتجه لها جل ميزانية التسليح والدعم الأمريكي كما أنها تأتي وفق قبول إقليمي واسع تحت مسمى الحرب على الإرهاب، والقوة التقليدية الثانية تعززها الهيكل القديم المتجذر والتصور الموروث لأقوى جيش عربي، والإمبراطورية الاقتصادية الآخذة في التضخم، وكذا مناهج التعليم والتدريب في الكليات العسكرية.
مع هذا التحول النوعي والمربك لأكبر مؤسسة بيروقراطية قامت عليها الدولة المصرية الحديثة ثمه فرص تتخلق للثورة المصرية تستطيع أن تقتنصها وتتعامل معها وتنميها في مواجهتها مع دولة العسكر في الجولة الثانية من الثورة، لكن عليها أولاً أن تنظر إلى هذه المؤسسة مليًا لتدرك كيف تتعامل معها ولتدرك قبل ذلك أن هذا العملاق الضخم ذا القوة الباطشة يملك في داخله ضعفًا وقابلية للتتفكك والخضوع أكبر مما كان عليه من قبل، فالعالم يتغير من حوله ولا يستطيع إلا أن يتكيف معه، وهنا تتبدى الفرص التي لم تكن متاحة من قبل.
ساسة بوست