لما كنت أبحث في ركام آلاف المقولات ومئات اللقاءات والإفادات التي تدفقت غداة رحيل الدكتور الترابي، لما كنت أبحث عن جملة أعنون بها مقالي اليتيم ذاك، لم أجد ما يستفزني أكثر من مقولة الكاتب اليساري السوداني عبدالله علي إبراهيم، والذي جايل الراحل الدكتور الترابي خلال نصف قرن من التاريخ السوداني، بحيث أن كل الأحداث الكبار منذ ثورة أكتوبر 1964 وحتى يوم الإنقاذ هذا، كان الترابي جزءاً من صناعها.. معارضا حاكماً أو سجيناً.. فانتهى الدكتور عبدالله إلى اختزال كل ذلك في عبارة بليغة.. عنونت بها مقالي يومئذ تقول.. (الترابي نهاية حقبة) !!
* ما أشبه الليلة بالبارحة.. التأريخ يعيد نفسه في مدرسة الأشقاء.. بحيث اضطر خلال فترة وجيزة العودة لاستلاف المقولة نفسها.. على أن القائد الاتحادي جلال يوسف الدقير لم يكن هو الآخر إلا رمزا (لحقبة الرواد والصناع) في هذا (الحزب التأريخ)!! الحزب الذي مكن الأجيال السودانية لتؤرخ لاستقلالها بيناير 1956.. عندما رفع الأزهري لأول مرة علم الاستقلال على سرايا القصر الجمهوري مهديا الأمة السودانية (بلدا متل صحن الصيني).. ألا ليت الأزهري يعود يوما فأخبره بما فعل اللاحقون !!
* وذلك لسبب بسيط جداً هو أن الرجل الدقير آخر من يحمل بعض أنفاس الأزهري وكبرياء الشريف حسين الهندي تلمزة، عندما رافقهم وهو يومئذٍ (يافع كبير)!! ومن ثم على الأقل قاسم الفقيد الكبير الشريف زين العابدين بعض الأدوار التأريخية، في مشهد هو أقرب إلى إعادة إنتاج (فتح الخرطوم).. أو قل فتح الطريق إلى الخرطوم.. والإنقاذ يومئذ كما وصفها السيد الصادق المهدي تركب على (حصانة مجنونة) !!
* يوم أن امتلك الزعيم الهندي (زين العابدين) وأشقاؤه جرأة النزول إلى الخرطوم.. ليس لفك رقبة الإنقاذ من حبل الحصار المحكم.. ولكن لحكمة أن (الإنقاذ ارتبطت برأس الوطن)!! حتى أن بعض الغلاة قالوا يومئذٍ (بذبح العجل وكسر الجرة) على رأس الوطن والإنقاذيين.. على طريقة النمروز عليَّ وعلى أعدائي !! فكانت حكمة الشريف يومئذٍ، يجب بأعجل ما تيسر إنقاذ الوطن وليس لنا ذنب إن كان ذلك سينقذ الإنقاذ!! إنقاذ الإنقاذ على طريقة.. “ياود المهدي الجابوك تهدي”!! على أن عملية تقديم الأشقاء الوطن على الحزب ليست (نزهة سياسية هتافية) ولكنها حقيقة لها ما يسندها في التأريخ!! فعلى الأقل قدم الأشقاء يومئذ بين يدي نجوى عودتهم مصداقية انتظار خمس سنوات حسوما حتى تحسم مطلوباتهم التي أتوا على متنها، ومن ثم ليشاركوا في السلطة !! ويكفي في هذا السياق أن الآخرين احتاجوا لإنفاق عقد ونصف ليصلوا إلى القناعة التي وصل إليها الأشقاء قبل خمسة عشر عاماً !!
* فعملية أن يصعد القائد الشقيق الدقير ذات ليلة رمضانية مشهودة، على هامة هذا التاريخ الباهظ ويعلن أنه سيترجل فاسحا الطريق لآخرين!! هذه لعمري هي الأخرى ليست (فسحة حزبية) أو مذحة رخيصة الكلفة!! فخطوة مثل هذه لو قدر لها أن تحدث سيكون أمام التاريخ العمل بالخيارين، أن يقلب صفحة جدبجة ويفتح أخرى ناصعة.. وأعيدكم إلى صدر المقال حيث منطق (نهاية حقبة) في تاريخ الأشقاء!! فلسوء حظ الاتحاديين إن مغادرة رجل بقيمة وقامة الدقير، ليس تبادل أدوار عادي إن لم يكن (دورات تأريخ).. فعلى الاتحاديين في هذه الحالة أن (يدوروا) إلى استدعاء ألف سبب تجعل الرجل يتأنى بعض الوقت، ريثما يسلم (الأمانة التاريخ والحزب) في صورة أفضل تليق بالأشقاء أنفسهم، حيث يلقي الواقع بظلاله وتحدياته على الحزب والوطن، وهنا تتساقط كل الهتافات والمزاعم التي على شاكلة تبادل الأدوار على معقوليتها !! فعلى الأقل.. سيدي جلال الدين.. إن أمانة الشريف حسين بكل ثقلها لا تلقى هكذا على قارعة قاعة الصداقة !!
* مخرج.. حتى لا يقول قائل على طريقة التيجاني ومعهده وعهده.. لقد كفر بن يوسف!! فعلى الأقل إن (ابن الصائم) يرى بأن رقبة كل سوداني دين واجب السداد لحزب الأشقاء، الذي رفع علم الاستقلال ولا يزال يرفع درجات الإحساس بالوطن بصورة غير مسبوقة.. ذلك يحدث في أزمنة ممارسة البعض بيع الوطن وتأريخهم بدراهم معدودة!!
* سيدي جلال يوسف الدقير.. أبذل هذه الكلمات في العشر الأواخر.. أرجو أن تكون لي صدقة ومكرمة.. فعلى الأقل إن وقت كتابة هذا الموضوع تكفي لقراءة جزء من القرآن الكريم.. فأرجو أن يكون في استبصار معالم الطريق وسيرة الأولين ومسيرة الآخرين.. بعض هدى وتبصرة وذكرى وعبر وأجر.. وسلام عليكم في اللاحقين المجتهدين.. وصلى اللهم وسلم على سيد ولد آدم محمد الأمين.