حينما مر موكب الرئيس رأى تجمعات احتجاجية في بعض الطرقات ..مرافق الرئيس يرد على استفسار الرئيس موضحاً بأن بعض الناس غاضبة من زيادة السكر ..غضب الرئيس من غضب الناس واستنكر احتجاجهم على تقديراته الرئاسية.. جمع الرجل قادة الاتحاد الاشتراكي وقدم لهم مبررات الزيادة ثم فتح باب النقاش.. انتصب الصحفي الراحل عبدالله عبيد معدداً سلبيات قرار زيادة السكر وآثاره على حماية مكتسبات الثورة ومطالباً الرئيس بإلغاء القرار قبيل مغادرة الاجتماع الصاخب.. انفعل نميري وأعلن من على المنصة استقالته من جميع مناصبه في الحزب والدولة.. حدث هرج ومرج.. صحفية شابة في تلك الأيام كاد أن يغمى عليها من فرط الصدمة..في اليوم التالي عاد نميري لممارسة عمله المعتاد ومرت الزيادة تحت وقع قنبلة الدخان التي صنعها المشير .
ربما التاريخ يعيد نفسه..أمس الأول حول الدكتور جلال الدقير حفل إفطار رمضاني قاد إلى حدث كبير.. الطبيب المتخصص في أمراض المناعة استشعر أن مناعة حزبه الذاتية بدأت تخور.. حيث أن في ذات التوقيت كانت مجموعة أخرى تقودها إشراقة محمود تنظم إفطاراً مشابهاً في ذكرى رحيل الشريف الهندي ..دون مقدمات أعلن الدكتور الدقير الأمين العام للحزب الاتحادي المسجل استقالته من كافة مناصبه بما فيها عمله كمساعد لرئيس الجمهورية ..تكرر ذات السيناريو فحدث هرج ومرج.. الدكتور أحمد بلال وزير الإعلام وأبرز مساعدي الدقير قاد هتافات الحب في وجه الدقير.. القيادات الممسكة بمناصب رفيعة أو غير رفيعة تبارت في بذل فروض الطاعة والإصرار على سحب الاستقالة التي لم تكتب بعد.
نجح الدقير في خطف الكاميرا من المجموعة المنافسة..كما كسب في ذات الوقت تعاطف الآخرين خاصة حينما تحدث عن ظروف صحية وراء الدفع بالاستقالة..لكن الدقير سياسي قدير ويعرف أن الاستقالة من العمل التنفيذي لا تطلق في الهواء الطلق ..وأن رئاسة الجمهورية لا تخاطب من موائد رمضان العامرة..حتى التنحي من زعامة الحزب لا يحدث بهذه الصورة الدرامية.. الدقير يدرك أن منصب رئيس الحزب شاغر منذ عشرة أعوام تزيد ولا تنقص..وأن المؤتمر العام للحزب الاتحادي ظل حلماً بعيد المنال.. لو أن الرجل جاد في مغادرة المسرح لشرع في إعادة البيت الاتحادي بهدوء وأعاد بناء المؤسسات الغائبة.
في تقديري ..سيستمر الدقير كأمين عام للحزب الاتحادي..بل من الممكن أن يرتقي لمنصب الرئيس الشاغر.. سيحدث كل ذلك برغبة الرجل ورضاء القاعدة الاتحادية ..البيئة السياسة في السودان لم تعرف أدب الاستقالة بشكل شفاف..في الأنظمة الشمولية قرار جمهوري يرفع أقدار رجال وآخر يرسلهم إلى كرسي المعاش غير المريح.. انفصل جنوب السودان ولم يدفع ثمن الخطأ الإستراتيجي أي مسؤول ..مولانا الميرغني يقيم منذ سنوات في شقة ضيقة في العاصمة البريطانية عاجزاً حتى عن أداء صلاة الجماعة رغم ذلك لا يقوى على اتخاذ القرار الصعب بتسمية ولي العهد زعيماً للحزب..لم تنته الحقبة الترابية في السودان إلا برحيل مؤسسها بغتة.
بصراحة.. ترسيخ أدب الاستقالة وتفعيل المحاسبة السياسية سيكون اللبنة الأساسية في مسار الإصلاح السياسي في السودان.