> قلنا بالأمس إن دولة الجنوب تواجه ثلاثة احتمالات هي التي تحدد مصيرها، ولا سبيل لكي تتعافى من أزمتها الراهنة إلا في حال تنفيذ الاتفاقية المبرمة بين طرفي النزاع الجنوبي – الجنوبي في أديس أبابا العام الفائت، ومما يستدعي التوقف عنده في الحالة الجنوبية الراهنة أن القوى الدولية والإقليمية التي رعت واهتمت بولادة دولة الجنوب تبدو عاجزة عن إيجاد أية حلول تمكن من العودة الى الاستقرار والهدوء وتفتح الباب أمام تصالح عام، والسبب في ذلك أن هناك زهداً دولياً لا حد له في التورط مرة أخرى في قضايا هذه الدولة الفاشلة أو مد طوق النجاة لها وهي تواجه الموت وتعاني من أعراض الطفل حديث الولادة. > من الواضح أن القيادات السياسية الجنوبية التي كانت تزدحم بها الحركة الشعبية ومكاتبها ومؤسساتها، قبل انفصال جنوب السودان عن الوطن الأم قد اختارت الانزواء والابتعاد أو أقصيت بالفعل، وصعدت القيادات العسكرية في الجيش الشعبي الى الواجهة أكثر من أية جهة أخرى وباتت تتحكم في مسارات الدولة الجنوبية، ثم حدث الانكفاء القبلي وتحولت الحركة الشعبية كحزب حاكم الى مجموعات متنافرة قبلياً وتسعى كل فئة للاستنصار بقبيلتها إلى إقامة التحالفات مع بقية القبائل في صراع سلطوي عنيف لا نهاية متوقعة له. > فإذا كانت الخيارات ضئيلة أمام تحقيق الاستقرار عبر تنفيذ الاتفاقية وكل طرف يتربص بالآخر، فإن الصدام سيكون نهاية مأساوية وكارثية لحلم دولة لم تخرج من شرنقتها بعد، ونظراً لطبيعة دولة جنوب السودان المعقدة اجتماعياً وسياسياً، فليس من السهل التكهن بما ستؤول إليه الأوضاع إذا مالت الأمور إلى أيٍ من الاحتمالات الثلاثة التي ذكرناها أمس، فحافة الهاوية الحادة وعليها أقدام دولة ترتعش وترتجف من هول الصدمة الراهنة هي الوصف الدقيق للحالة التي عليها الجنوب وحركته الشعبية الآن. > في هذا السياق لا بد من الإشارة إلى أن تركيبة الحكم الحالية التي ولدت من رحم الاتفاقية وتمت محاصصة السلطة ما بين سلفا كير ومجموعته ود. رياك مشار ورهطه المعارض وما تسمى المجموعة الثالثة التي تضم المعتقلين السابقين وأولاد قرنق، لا تستطيع هذه التركيبة بخلافاتها التي برزت من أول يوم، قيادة المركب وحسن استخدام الدفة لعبور منطقة الخطر والانجرافات الصعبة والمتاريس، فالجنوب لم يعد يصلح لشيء غير الحرب والاقتتال، ولا توجد إرادة سياسية صلبة وقوية تغلب الخيارات السليمة والحوار والتفاوض، وبينما يسعى سلفاكير الى الخروج من الأزمة الحالية رغم تعنته في تنفيذ ما يليه من الاتفاقية، فإن الطرف الآخر يتخذ من عدم رغبة الرئيس سلفا كير في تطبيق ما تم الاتفاق عليه ذريعة للتراجع والانتكاس بحجة أن الاتفاقية قد ماتت وشبعت موتاً، وتصبح وفقاً لذلك الأبواب مفتوحة أمام هذا الطرف ليفعل ما يشاء. > ومع فقدان المجموعات الثقة في بعضها البعض، فإن الفوضى المتوقعة في دولة الجنوب ستقضي على الأخضر واليابس، ولن تكون هناك حتى آمال قليلة في النجاة بالدولة من مصيرها المحتوم، وهنا لا بد من الإشارة إلى أن البدائل المطروحة اليوم تبدو أكثر بؤساً من الحالة الراهنة، فمجموعات الدينكا ليست لديها قيادات فاعلة وقوية سواء كانت من منطقة البحيرات أو شمال بحر الغزال أو حتى أعالي النيل، فالقيادات السياسية الفاعلة والجادة إما بسبب العمر قد اختفت من الساحة السياسية أو ابتعدت في المهاجر البعيدة لسبب أو لآخر، ولم تقدم الحركة الشعبية بدائل جديرة بالاحترام من داخل كيان الدينكا أو مجلسهم الذي تكون للسيطرة على الوضع هناك وتنظيم القبيلة وسلطتها من الداخل. > بينما يعاني النوير من خلل كبير في القيادات، وتبدو مرحلة ما بعد رياك مشار أكثر ظلمةً وحلكةً، فإن قيادات مثل تعبان دينق أو بيتر قديت وغيرها غير قادرة على مخاطبة كل الجنوبيين والاصطفاف معهم.. في ذات الوقت فإن معادلات السلطة لا تعطي الاستوائيين في هذا الوقت بالتحديد فرصة لتجريب حظوظهم في قيادة بلد مهترئ وممزق. > مهما كانت الفرضيات فإن دولة جنوب السودان التي تذوب سريعاً في محنتها ونارها المشتعلة، تركت وحيدة تواجه مصيرها ولم تمتد إليها أية يد لانتشالها من الحريق، فلولا سوء تقديرات قيادة الحركة الشعبية وعدائها للسودان لكانت الخرطوم هي الأقرب إليها، فهي طوق نجاتها والحبل الذي سيمد لها حتى تخرج للضفة الأخرى.. لكن!!