فشلت حكومات ولاية الخرطوم المتعاقبة، خاصة حكومتي المعتضد بالله عبد الرحمن الخضر والجنرال عبد الرحيم محمد حسين في إدارة ملف نفايات العاصمة وإحسانه فشلاً ذريعًا مريعًا ومُخيِّبًا للآمال ومفارق للتوقعات، وما الفشل في هذا الملف إلاّ جزء من فشل إداري عام اتسمت به إدارات الخرطوم وضواحيها منذ الراحل محمد عثمان محمد سعيد ومساعده يوسف عبد الفتاح مرورًا بالراحل مجذوب الخليفة والمتعافي ووصولًا إلى الخضر وحسين الراهن.
روائح الخرطوم، في مركزها ووسطها التجاري، تجعل أنفك يستغيث ويصرخ، دعك عن نفاذها داخل أزقة الأحياء السكنية الراقية منها والشعبيّة، هناك زبالات وقاذورات وأوساخ ونفايات بعضها فوق بعض، أكوام، تلال، جبال من (العفونة) المستحكمة، والمواطن يدفع مقابل الأذى من جيبه المثقوب، وإدارة الولاية المنكوبة لا تحرك ساكنًا، بل تنصرف عن مهامها الأساسية الحيوِّية إلى ما هو أدنى، فها هو مُعتمدها أحمد أبو شنب يكشف في تصريحات صحفية عن لقاءين بينه وبين السفيرين الإثيوبي والإرتري أبلغهما خلالهما أنه غير مسموح لمواطني بلديهما المقيمين في الخرطوم بارتداء ما أسماه باللبس الفاضح أثناء العمل، مشيرًا إلى نوعين منه، هما الـ (تي شيرت، والبرمودا).
والحال، إن الأمر يبدو موغلاً في (الانصرافية) لجهة أن المعتمد يُغدق على الصحافة بقضايا جانية هامشية وشكلانية مثل ماذا على الناس أن (يلبسوا)؟، فيما يدير ظهره عن الأمور الأكثر أهمية التي عُيِّن من أجلها في هذا المنصب الحساس والرفيع، مثل المواصلات، النفايات، المصارف، الماء، الكهرباء، التوظيف، الخدمات التعليمية والصحيّة، إصحاح البيئة، وما إليها، غير أنه ترك ما يليه ليذهب إلى الـ (تي شيرتات والبرمودات) الأجنبية.
بطبيعة الحال، وبما أن الشيء بالشيء يُذكر، فإن هذه الواقعة الإدارية العاصمية حملت ذاكرتي إلى قصة الأرجنتيني (برناردو كوردون) الموسومة بـ (الإضراب الأخير للزبالين)، فأول أمس طرق عليّ طارق، ولما فتحت، إذا بجارٍ لي يطلب مني المُساهمة بما أستطيع من أجل إيجار شاحنة لنقل النفايات المتراكمة أمام أبواب منازل الحي، وما كان منيّ إلاّ أن أوافق رغم التزامي بدفع رسوم هذه الخدمة للحكومة، وبالتالي فإني وغيري ندفع مرتين، حينها تذكرت تلك القصة التي تدور أحداثها في (بيونس ايرس): “في نهاية السنة، عادة ما ترتفع درجة الحرارة في العاصمة الأرجنتينية، فيحدث ذلك توترًا على المستويات كافة، ولأن عمال النظافة لم يتلقوا مكافأة العيد، انتشرت شائعة بأنهم بصدد تنظيم إضراب شامل، فارتبكت المدينة كلها، أدار رجل الأعمال (كاموسو) سيارته في اتجاه عدد من المصارف – يستبق الإضراب – ليُدبر مبلغًا يدفعه إكرامية شخصية للعمال حتى لا يتأثر مصنعه، وبينما هو مستغرق في هذه المعضلة ضايقته شاحنة على الطريق، فأدار مِقود القيادة إلى أقصى مدىً وصعد بمحاذاةِ الشاحنةِ على الرصيفِ بعجلتين، وبعد تمكُنِهِ مِنْ تجاوزها أطل برأسه من النافذة وصرخ: “يا زبالة عليكم التوقف إلى جانب الطريق”. بالطبع، لم تكن تلك شاحنة زبالة، كانت شاحنة للملابس الصيفية الخفيفة كـالـ(تي شيرتات والبرومودات) لمُجابهة الطقس الخانق في (بيونس آيرس).