“بت أمك ما بتكوسي دروب الشك والذلة كفتيرا تفك الحيرة يا بت أحسن من غيرها”. شاعر الشعب محجوب شريف – طوال اليوم الخرطومي المرهق يتحلقون حولها متأبطين سيرهم ومصائرهم المفتوحة على كل الاحتمالات.. تمتص غصتها عونا ومؤازرة، ويشكلون عالمها النهاري والحبل السري الذي يشد الفقراء بعضهم لبعض يزداد مودة. يزدردون خيبات آمالهم ويحتسون القهوة.. يقهقهون.. يسترجعون ذكرياتهم المبتورة ويقضون سحائب بؤسهم في خرائب عنت الخرطوم.. صباح الخير.. صباح قهوة بحرية.. نتلاقى عِنْ بحرية.
يوم شاق ومُضنٍ
عند المدخل الشماليّ لفندق الخليل وعلى الجهة الجنوبية لبرج الضرائب المتجهم وسط السوق العربي تحتويها برندة واسعة وطويلة مع رفيقاتها.. تجلس أمام الموقد (المنقد) الذي كان يأكل جسدها وسنوات عمرها ليدفع الصبية للأمام.. ينمو الأطفال وتتضاءل قدرات الجسد.. من على أطراف مدينة أمدرمان تبدأ رحلة اليوم.. مع نجيمات الصباح وبالجسد المكدود، بت أمك ما بتكوسي دروب الشك والذلة جربتي الكسرة تعوسي ما بسمع حسك إلا النجمة وديك الحلة وعجينك في البستلة في ليل الساج الداكن ترميه قميرة قميرة.. الشاي وحفل توزيع قروش الفطور والموصلات ورسوم المدرسة وأقلام الرصاص ودفاتر التلوين. ويا فتاح يا عليم.. وقهوة الصباح.. لأكثر من (15) عاماً (بحرية) و(فاطمة) يتوزعن الزبائن الذي يتناوبون على البنابر الواطئة، غياب إحدهما يشكل عبئا ثقيلا على الثانية.. تعرف كل أمزجتهم وزنجبيل قهوتهم.. تقرأ في تقاطيع وجوههم تبدل الطقس ودفتر أحوالهم.. تمازحههم ويمازحونها بخشونة لطيفة وعيونهم لا تغفل عن رجال (الكشة) القساة.. دفعت بها وبهم لهذه الرقعة من السوق العربي أمام فندق الخليل الشهير في حالة مثيرة للانتباه، فندق الخليل يرتاده الأحفاد بعد ربع قرن من استقلال بلادهم، أجداهم وآباؤهم من رجالات الثورة الإريترية الذاهبين للميدان بعد رحلة علاج أو تدريب للميدان، أو القادمون من الخارج للمؤتمرات.. الخ.
رحلتان باتجاه واحد
لم يدر في خلدهم أن هذا الفندق سيرتاده أحفاهم وهم عاطلون مضعضعو الروح.. طلاب ولاجئون جدد مترصدون الطرق نحو الحياة.. صحفيون وعاطلون.. بصاصون وسماسرة.. فقراء ومرضى.. كسلاويون تجمعهم مدينتهم يحتمون ببعضهم.. دفع بها ما يجري في دارفور والنيل الأزرق وجبال النوبة.. رحلتان باتجاه واحد نحو الحياة للبقاء على سطح الأرض لا تحتها.. من مفارقات الخرطوم زوال شريحة أو الطبقة الوسطى تماما من المشهد لتحل محلها فئة السماسرة والطفيليين ببؤس ثقافتهم وعدمية تقاليدهم، ورأفة بالناس ظهرت فئة لا مسمى لها حتى الآن، وتجاوزا يُمكن أن نقول (ستات الأطعمة والشاي) ليخففن عنت التصاريف اليومية بثقافة سندها التسامح والطيبة، فقط أي حداد يليق ببحرية؟ أي كتابة يمكن أن تلج محيطات وبحار (بحرية)؟ رحم الله بحرية وأسكنها فسيح جناته مع الصديقين والشهداء.
صحيفة اليوم التالي