عادل عبد العزيز: هناك تفاوت واضح جدا في الدخول بين الفئات الميسورة والتي تعاني الفقر والمسغبة
الحسين إسماعيل أبوجنة: الطبقة الوسطى تلاشت من السودان مع دخول عائدات البترول في دورة الاقتصاد
ربيع عبد العاطي: لا يوجد انفصال بين طبقات المجتمع بالسودان لا في الملبس ولا المأكل ولا المشرب
صعود الرأسمالية الطفيلية وإقصاء رأس المال الوطني انهى التنصيف الطبقي الطبيعي وأفرز طبقة ثنائية
“الناس دي بتجيب القروش من وين؟”، ما إن أطلق شاب عشريني سؤاله الاستنكاري هذا داخل مركبة نقل عام حتى جاءته الإجابة من رجل يجلس أمامه قائلا بلغة حاسمة ووجه صارم التعبير “دي قروشنا”، ليكون السؤال وإجابته مثار تعليق الركاب الذين كانوا يتبادلون الآراء وهم ينظرون عبر النوافذ الزجاجية ناحية المنازل الفخيمة التي تقع في حي يوصف بالمخملي.
وقطع عليهم تعليق شاب تأملهم للحدائق الغناء والبنايات السوامق وذلك حينما قال ساخرا، “مفروض المواصلات ماتجي بالطريق ده، عشان ماتجينا نفسيات”، ليقابل الركاب تعليقه بابتسامة عابسة كأنما ارتسمت بالإكراه على الشفاه.
فوارق وفوارق
والذي يتجول بأنحاء متفرقة من أحياء وأسواق العاصمة يلحظ بوضوح وجود تباين غير خاف، ومن يزور كافتيريات شارع المطار ويتفرس في الوجوه ويتعرف على تكلفة الوجبة الواحدة التي يدفعها مرتادو هذه الأماكن الفخيمة، ثم يتوجه صوب الأسواق الشعبية ويقترب من أماكن المأكولات يقف على حقيقة بروز طبقتين في المجتمع.
الطبقة الأولى يمشي أفرادها في الحياة الرغدة التي تتضح جليا في مسكنهم ومأكلهم وملبسهم بل حتى الأماكن التي يرتادونها لقضاء لحظاتهم الترفيهية بل ومناسباتهم الخاصة، أما الطبقة الثانية وهي التي تتشكل من قطاع واسع من الناس فإن أفرادها يمكن التعرف عليهم من ملامح وجوههم البائسة ونظراتهم المرهقة وأجسادهم التي أعياها المسير واللهث وراء لقمة العيش ومن أعينهم التي تحكي عن الكثير والتعبير عن عسر الحياة الذي يرزحون تحت وطأته، وبكل تأكيد فإن الحكم الذي أطلقه الرجل الخمسيني في المركبة العامة بأن الطبقة الأولى ما كان لها أن تصل إلى رغد الحياة لولا “قروش” الطبقة الثانية، فإنه يبدو حكما قد يقبل الصواب والخطأ وليس نهائيا لجهة وجود أفراد في المجتمع من الطبقة المترفة لم تمد يدها “لقروش” الطبقة الثانية، ولكن الواقع يؤكد أن الفوارق الطبقية الاقتصادية في المجتمع السوداني باتت واضحة.
شواهد ومشاهد
زيارة خاطفة لأحد المطاعم الراقية المتناثرة في أنحاء العاصمة تكفي لتبيين الفوارق الطبقية الاقتصادية الكبيرة التي طالت المجتمع السوداني في الفترة الأخيرة رغم رزوح الأغلبية الكاسحة منه تحت خط الفقر، فالأبواب الزجاجية لتلك المطاعم تشف تفاصيلها عما وصل إليه الحال الاجتماعي من تفاوت عمّق الهوة بين المسحوقين وسكان البرج العاجي، ليطل سؤال موضوعي وجوهري قوامه هل المطعم ونوعه يعطي مؤشرا للوضع الاجتماعي. هنا تقول الطالبة الجامعية فاطمة: إن المطاعم الفخمة المنتشرة في شتى بقاع العاصمة القومية تنم عن تفاوت الإمكانيات بين المواطنين، إذ أن كثيرا منهم لا يقوون على الاقتراب منها، ولا ينتابهم مجرد التفكير في ذلك من واقع تضعضع الحال المادي للغالبية العظمى جراء تدهور الأوضاع الاقتصادية وقلة الدخول، فغدوا لا يملكون وسيلة تبلغهم مدارج تلك المطاعم وإن كانت في النفس حاجة ومن الروح رغبة، ويبدو الواقع بهذه الكافتيريات وكأن لافتة قد كتبت خارجه مفادها “عفوا هذه المطاعم للأثرياء فقط ولا مكان للفقراء والبسطاء”.
اختلاف جوهري
حتى على صعيد المناسبات الخاصة فإن الفوارق الاقتصادية تبدو شاسعة والهوة سحيقة بين طبقات المجتمع، وهذا ما تسرده لنا الموظفة الشابة ليمياء التي قالت إن مناسبات الأغنياء تشهد ترف غريب لا يوجد له مبرر موضوعي، وتضيف: في كثير أحيان اجد نفسي مجبرة على تلبية دعوة إحدى زميلات فترة الجامعة أو العمل وقبل أن اتوجه اواجه صعوبة حقيقية في توفير الأزياء التي تليق بمثل هذه المجتمعات ورغم اجتهادي في أن يكون مظهري جيدا إلا أنني وعند دخولي صالة المناسبة الفخمة اشعر بنفسي “وسخانة” وهذا الإحساس رغم أنه ينم عن شخصية انهزامية وغير واثقة وتشعر بالدونية إلا أنه يسيطر علىَّ رغم ثقتي الكبيرة في نفسي فقد كنت الأولى في دفعتي، عموما ذهبت إلى مناسبات متعددة فقد اكتشف أن هذه الطبقة تعيش حياة من البذخ بل ويتنافس أفرادها في إظهار الثراء الذي يتمتعون به عبر منافسة اعتبرها تنم عن الوصول إلى درجة من الرفاهية التي لا تتسق مع الأوضاع الاقتصادية في البلاد، وتقول ليمياء رغم اقتناعها التام أن الأرزاق بيد الله وأن كل “شيء قسمة ونصيب” إلا أنها تبدو حزينة لوصول المجتمع السوداني إلى هوة سحيقة من التباين الطبقي غير المسبوق .
فوارق طبقية اقتصادية
الفوارق الحالية واتساع البون بين فئات المجتمع واختفاء الطبقة الوسطى وبروز طبقة منعمة وغارقة في الحياة الرغدة وأخرى يسحقها الفقر بالتأكيد لها أسباب بخلاف تلك التي يرددها الشارع بأنها تتمثل في الفساد واستئثار فئة محددة بالمال، وهنا يؤكد الخبير الاقتصادي الدكتور عادل عبد العزيز، وجود فوارق طبقية اقتصادية في مستويات الدخول، ويشير في حديثه لـ(الصيحة) إلى وجود تفاوت واضح جدا في الدخول بين الفئات الميسورة والتي تعاني من الفقر والمسغبة، مؤكدا أن مثل هذه الفوارق موجودة في كل المجتمعات، بيد أنها وبحسب الدكتور عادل عبد العزيز في الأنظمة المتطورة تتم معالجتها خاصة تلك الفوارق الحادة عن طريق تفعيل أجهزة الضرائب بحيث تؤخذ ضرائب كبيرة من الأغنياء وتطرح عوائدها في شكل خدمات أو دعم اجتماعي للفئات الفقيرة.
ويرى عبد العزيز أن التفاوت والاختلاف في الدخول المادية ناتج عن اختلاف الوظائف والمؤهلات العلمية وايضا اختلاف الفئات الاجتماعية التي ينتمي لها الشخص المعني، واردف قائلا: ابن التاجر أو الصناعي يتوقع أن يكون له دخل عال ويتولى المهام التجارية والصناعية، فيما يتوقع أن يكون ابن العامل من الفئات الفقيرة إلا إذا اجتهد اجتهادا كبيرا في تحصيل علمي يمكنه من الارتقاء إلى فئة المديرين.
تشوهات اقتصادية
بالمقابل يشير الخبير الاقتصادي الحسين إسماعيل أبوجنة، إلى أن السودان حتى نهاية القرن العشرين كانت توجد به طبقة وسطى وقد اختفت خلال العقدين الأخيرين مع دخول عائدات البترول في دورة الاقتصاد السوداني، وقال أبو جنة في حديثه لـ(الصيحة) إن الطبقة الوسطى اختفت لأن الاقتصاد الموجود طفيلي حيث لا توجد اوجه محددة للأنشطة الاقتصادية مما ادى إلى حدوث خلل في الميزان التجاري لصالح الواردات وتراجع الصادرات، ويشير أبوجنة إلى انخفاض مداخيل الأفراد الحقيقية مع زيادات ليست ذات أثر إيجابي في الدخول النقدية، واردف: هذه التشوهات في هيكل اقتصاد الدولة كان من الطبيعي أن تفرز مفارقات تتراجع على إثرها الطبقة الوسطى كمنطق طبيعي للتقلصات الحادة في الاقتصاد السوداني .
أزمة قديمة جديدة
وبحسب مختصين وخبراء وأكاديميين فإن المشكلات الاجتماعية الكبرى التي يعاني منها الإنسان دوما ولازال رغم كل ما حققه البشر من تقدم صناعي ومادي هي مشكلة التباين الطبقي المتمثلة بالفقر المدقع في جانب، وتراكم الثروة في جانب آخر، فالبعض يكتنز ثروة بحيث أنه لا يستطيع أن يحصيها ويتقلب في نعيمها، وبالمقابل يوجد من لا يستطيع أن يوفر الحد الأدنى من متطلبات الحياة الكريمة، ويؤكد مختصون أن المجتمع الذي يرتكز على ثراء فاحش في جزء منه، وفقر مدقع في أجزائه الأخرى لن يصل إلى السعادة الحقيقية.
تقريب شقة التباعد
وفي هذا الإطار يعتقد الباحث الاجتماعي النذير أحمد عثمان، أن المجتمع السوداني ومن الإيجابيات التي يجب أن يعض عليها الجميع بالنواجذ هي أن فوارقه الطبقية تنحصر على الجانب الاقتصادي فقط، ولا توجد فوارق أخرى، ويشير في حديثه لـ(الصيحة) إلى أن المجتمع السوداني ورغم ما مر به من حروب وعدم استقرار وفشل ذريع للحكومات المتعاقبة وتفشٍ للقبلية إلا أنه ظل متماسكا ولم ينحدر في مستنقع الفوارق الإثنية والعنصرية والطائفية والتباعد الطبقي المجتمعي الحاد، وقال إنه رغم الآراء السالبة تجاه السياسيين بمختلف الأحزاب السودانية وتحميلهم أسباب التردي الاقتصادي إلا أنهم نجحوا في الإبقاء على شمعة التقارب الوجداني والإنساني والاجتماعي متقدة، ورأى أن المجتمع السوداني ورغم الظروف التي مر بها إلا أنه أكد بأنه “شعب معلم” لأنه تمكن من تخطي كافة الصعوبات التي لو واجهها شعب آخر لتفرق أيدي سبأ.
ويعود الباحث الاجتماعي النذير ويلفت إلى أن الفوارق الطبقية الاقتصادية لها آثار سالبة في المجتمع لأنها تقسمه إلى طبقتين، واحدة تتمتع بثراء فاحش وأخرى تشكو الضنك والفقر المدقع، وقال إن هذا يخلق غبنا في النفوس باعتقاد البعض أن الذين وصلوا مرحلة الثراء الفاحش ما كان لهم ليدركوا هذا لولا هضمهم لحقوق الطبقة الثانية، ويرى الباحث الاجتماعي ضرورة أن تعمل الدولة بكل أجهزتها على خفض الإنفاق الحكومي ومضاعفة الضرائب على الأغنياء وتخفيض أجور الموظفين في المؤسسات الحكومية المختلفة وتوجيهها نحو الفقراء، وقال إن الدين الإسلامي وضع نظرية اقتصادية متطورة إلى أبعد الحدود وإنه إذا تم تطبيقها فلن يوجد تفاوت اقتصادي طبقي.
ليس تفاوتا
وقريبا من حديث الباحث الاجتماعي ينفي القيادي بالمؤتمر الوطني، الدكتور ربيع عبد العاطي، وجود انفصال بين طبقات المجتمع بالسودان مثلما هو حادث بعدد من الدول، وقال لـ(الصيحة) إنه زار العديد من الدول ومن ضمنها مصر التي قال إنها تشهد فوارق طبقية حقيقية وانفصالا مجتمعيا بين الطبقات، مؤكدا أن هذا الأمر غير موجود في السودان، وأضاف: في مصر يوجد مجتمعين لا رابط بينهما لا في المأكل ولا الملبس ولا الوظائف بل حتى المصاهرة تنعدم بينهما، وهذا الأمر لا وجود له في السودان والذي تتمظهر فيه أشياء مثل المساكن الراقية والسيارات فهذه باعتقاد البعض اقرب للفوارق الطبقية ولكن الحقيقة بخلاف ذلك لأن من يقطن فيلا فخمة على شاطئ النيل يتواصل مع أهله وأصدقائه في الأحياء الشعبية، مؤكدا أن حدوث انفصال طبقي في السودان مستبعد تماما، قاطعا بأن العمارات والسيارات لا تعد دليلا على وجود فوارق طبقية اقتصادية.
حلول اقتصادية
الأزمة الحالية في السودان عائدة – بحسب الكثيرين – إلى صعود الرأسمالية الطفيلية، وسيطرتها على المشهد الاقتصادي والتجاري، مقابل إبعاد وإقصاء الرأسمالية الوطنية، وهو ما انهى التنصيف الطبقي الطبيعي، وأفرز حالة من الطبقية الثنائية المتمثلة في المنعمين والمعدمين، بعدما تلاشت الطبقة الوسطى نهائياً. ويرى المحلل الاقتصادي عثمان أبوزيد أن علماء الاقتصاد ذهبوا إلى اتجاهات ومذاهب شتى، لتجسير هوة الفوارق الطبقية في المجتمع، لافتا في حديثه مع (الصيحة) إلى أن بعض المكونات الاشتراكية واليسارية اختارت إلغاء الملكية الفردية، بينما أنحازت بعض التشكيلات الرأسمالية إلى طريق استيفاء الضرائب الثقيلة وإنشاء المؤسسات الخيرية العامة وهي شكلية أكثر من كونها حلا لمشكلة الطبقية، ظانين أنهم بذلك يكافحون هذه المشكلة، لكن أيا من هؤلاء لم يستطع في الحقيقة أن يخطو خطوة فعالة في هذا السبيل، وذلك لأن حل هذه المشكلة بحسب خبراء اقتصاد ومجتمع غير ممكن ضمن الروح التي تسيطر على العالم، ويلفتون إلى أن اهم الأهداف التي يسعى لها الإسلام هي إزالة هذه الفوارق غير العادلة الناشئة من الظلم الاجتماعي بين الطبقتين الغنية والفقيرة، ورفع مستوى معيشة الذين لا يستطيعون رفع حاجاتهم الحياتية ولا توفير حد أدنى من متطلباتهم اليومية دون مساعدة الآخرين، وللوصول إلى هذا الهدف وضع الإسلام برنامجا واسعا يتمثل بتحريم الربا مطلقا، وبوجوب دفع الضرائب الإسلامية كالزكاة، والحث على الإنفاق، والقرض الحسن، والمساعدات المالية المختلفة، وأهم من هذا كله هو إحياء روح الأخوة الإنسانية في الناس ومحاربة الاحتكار والفساد.
تحقيق: صديق رمضان
صحيفة الصيحة