أمير تاج السر .. الظهور والتخفي

منذ نحو ثلاث سنوات، وبعد زمن طويل من كتابة الروايات، فكرت في كتابة عمل جديد، مستخدما اسما آخر غير اسمي الذي يعرفه الناس، وتاركا الكاتب صاحب الاسم الذي سأستخدمه، مجهولا تماما، لن يعرفه أحد، وذلك لمعرفة ردود أفعال كنت أجهلها بلا شك، عن كتابتي، وغالبا سأراها مجسدة عن كتابة واحد لا يعرفه أحد.
هذه الفكرة ليست جديدة كما هو معروف، وكثير من الكتاب في أماكن متعددة كتبوا بأسماء مستعارة، بعض الأعمال، قبل أن يعترفوا ببنوتها لاحقا. وهناك نساء خاصة في بلاد العرب، كتبن القصائد والقصص، ونشرنها بأسماء مستعارة، وكثيرا ما ترى أسماء مثل بنت الصحراء، وبنت الموج، وراعية الظلال، وذلك خوفا من مجتمعات، ترى المرأة كائنا مسجونا في داخله، ولا تسمح بأي بوح أو إبداع ينتج منها. أيضا هناك روايات كتبت في أوروبا في القرون الماضية، وكانت تحمل أنفاسا معطوبة، وقدرا كبيرا من سوء الخلق والفضيحة، وربما تمس المجتمعات في صميم عاداتها وتقاليدها، في ذلك الوقت القاسي من أوقات أوروبا، ولم يستدل أحد على مؤلفيها قط. وهناك روايات مشهورة، ما زال الناس يخمنون، ويقترحون لها كتابا، ولا أحد يعرف بالتحديد. وكنت قرأت كتابا أعده صحافي ألماني، ونشرته مؤسسة «كلمة» في الإمارات، يتحدث عن محاكمات الكتاب، أو وقوف الكتاب أمام محاكم التفتيش في أوروبا، وما نالوه من الأحكام بسبب الكتابة، ومنهم من نال أحكاما بالإعدام.
المهم، وباستشارة أصدقاء لي، يتابعون ما أكتبه، أكدوا أن الأوان قد فات على التخفي، فكل الذين فعلوا ذلك، ونشروا كتبا بأسماء مستعارة، ومنهم الكاتب المعروف ستيفن كينغ، فعلوه في سن مبكرة، وحين كانت أساليبهم الكتابية ما زالت خطوطا عريضة، تجرب الوقوف، بحثا عن قامتها المستقلة، ولن يأتي واحد قضى وقتا في الكتابة، وجرب وانتهى، ليكتب باسم آخر، متوجها لقارئ ربما يكتشفه من الصفحة الأولى. وحقيقة لكل كاتب قديم، استخدامات معينة للغة، له لفتات ووقفات، وإيماءات، ودروب يسلكها وحده، وأي قارئ من قرائه، لا بد يعرف قوته وضعفه، وهناك قراء مبدعون حقيقة، يمكنهم أن يتخيلوا مواقف داخل النصوص التي لم يقرأوها بعد، ويصدق خيالهم.
وقد تذكرت في هذا السياق أيام أن كنت طالبا في مدينة بورتسودان، وكنت أكتب شعر الأغاني، وأزهو به وسط الطلاب، وأيضا وسط شعراء الأغنية في المدينة، بعد أن تعرفت إلى معظمهم، وصرت أشارك في بعض الأمسيات الشعرية، متحمسا ومتهدج الصوت، وأنتظر عبارات الثناء والإعجاب، أو أمنح أحد المغنين قصيدة وأستمتع بسماعها ملحنة ومغناة في حفلات الأعراس، هكذا. لكن معظم أغنياتي كانت صعبة، وغير مفهومة للعامة، ويؤديها المغنون كأنهم مجبرون على أدائها، ولم ينجح منها إلا القليل، وكان ذلك كافيا لتوليد الإحباط الذي أبعدني تماما عن تلك السكة، لا أدري لحسن أم سوء حظي. كان يجلس معنا دائما، شاب يحاول كتابة الأغنية في تلك الفترة، ولا يستطيع. لم يكن شاعرا ولا نصف شاعر، ولا حتى يقترب بأي خطوة مبدعة من الشعراء، كان عاشقا للجمال، ويركض في الشوارع، ومستعدا في أي وقت للحديث إلى فتاة جميلة، ووعدها بكتابة قصيدة فيها، ومستعدا أيضا ليخطب نظريا أي فتاة تعجبه، ويراوغ حين تطلب منه أي خطوة جادة. هذا الشاب أثر كثيرا في، كنت أرى عذاباته، في محاولات كتابة القصائد، وفكرت أن أهديه قصيدة تختلف عما أكتبه، ليضع عليها اسمه، وبالفعل صغت له تلك القصيدة البسيطة، التي لحنت بلحن خفيف، ما لبث أن اشتهر، في المدينة، واشتهر الشاعر الذي كان يهرب من معجبيه، ومن المغنين الذين أرادوا قصائد منه، بينما كنت منزعجا لفترة، وأنا أشاهد نجاحا مزيفا، كان يمكن أن يكون نجاحي.
لقد تذكرت كل تلك الهواجس القديمة، وأنا أقرأ عن الكاتبة الإيطالية إلينا فيرانتي، التي ظهرت مؤلفاتها لأول مرة عام 1994، أي من جيلنا نفسه، وكتبت بعد ذلك روايات كثيرة ناجحة، ترجمت للغات عدة، ورشحت روايتها (قصة الولد الضائع) لعدة جوائز هذا العام، ووصلت للقائمة القصيرة، لجائزة مان بوكر العالمية، والقائمة القصيرة لأفضل الروايات المترجمة للإنكليزية، هذا العام. ومع ذلك لا يعرف أحد هويتها حتى الآن، أي أن واحدة موجودة في ساحة الأدب العالمي بقوة، منذ اثنين وعشرين عاما، وحاصلة على جوائز، بلا أي هوية مجسدة، لا وجه يبتسم عند النجاح، ويكشر عن الفشل. لا عينان تضحكان أو تبكيان، لا يد تمتد لتصافح قارئا متحمسا، أو ناشرا منبهرا، أو وكيلا أدبيا أو توقع لقارئ أراد التوقيع، في واحد من معارض الكتب، خاصة في إيطاليا التي فيها معارض قوية وناجحة. ولدرجة أن أكاديميا، وهو روائي في نفس الوقت، أعد بحثا استقصائيا عن تلك الكاتبة، خلص فيه إلى شخصية أكاديمية أكد أنها الكاتبة، لكن ذلك تم نفيه.
لقد كان عالم الكتابة وما يزال في معظمه عالما استعراضيا، يتسابق الناس فيه إلى نجومية فقيرة لا ترتقي إلى نجومية الفنانين. أقصى ما تحدثه نجومية الكتابة، أن يتعرف إليك راكب في باص تستقله إلى بيتك، أو تبتسم لك جارة تعرف أنك تؤلف الروايات، أو على أقصى تقدير، أن تتأنق في ندوة لمناقشة عمل لك، ويأتي عدد من الناس من أجلك. إنها البهارات التي يحبها المبدعون ويسعون لها، ولو كانت ثمة حقوق مادية، فلا بأس وإن لم يكن فلا مشكلة. بالمقابل توجد كثير من المطبات، كثير من الحفر العميقة، والأحقاد، والإقصاءات والنميمة التي تركض خلف الناجحين حتى يسقطوا في الفشل، ويتخذوا مقاعدهم على طاولات الإحباط.
هذه الإيطالية الغامضة، تخلصت من كل ذلك، تخلصت بعبقرية شديدة، ومنذ بداياتها، من داء النجاح، وداء الفشل في نفس الوقت. ستجعل أعمالها الروائية، تأخذ مسارها في لغتها الأم، واللغات الأخرى، ويناقشها القراء والنقاد وتكتب عنها المراجعات، وتتابع كل ذلك، ولا يعرف أحد ماذا كان رد فعلها:
هل انتشت بمديح طويل من ناقد متحمس؟ هل غضبت من مقالة جارحة، غاصت في أعماق إبداعها ونحرته؟ هل باتت ليلتها ضاحكة، أو مكتئبة؟ وهل أضمرت شيئا من سوء النوايا، أو امتلأت بالنوايا الحسنة؟
الذي يكتب باسمه، يمر بكل تلك الانفعالات التي ذكرتها، ويعرفها الناس، يعرفونها من كلمات الشكر التي يخص بها مادحيه، وكلمات الجفاء واليباس التي يوجهها لمنتقديه، ويستطيع أي قارئ مبتدئ، بلا أي دافع سوى الابتهاج الشخصي، أن يغيظه بتغريدة صغيرة في تويتر، أو منشور تافه على فيسبوك. الإيطالية بعيدة عن كل ذلك، وأضيف أنها لن تتعذب بقراءة المخطوطات التي يبحث أصحابها عمن يقدمهم، ولن تشارك في لجان تحكيم الجوائز، حيث تتخرم العيون ويبهت النظر، وهو يلهث في كتابة تسعى لنيل جائزة، بلا أي وجه حق.

اليوم التالي

Exit mobile version