حكايات رمضانية.. الفنان
هذه حكاية عن رجل فنان، مغني محلي بإحدى المدن السودانية الوليدة، من زمن الستينيات والسبيعينات في القرن العشرين. لنقل إن اسمه حيدر الغالي. رجل أنيق في ملبسه، دائم الابتسام، يتحرك في دائرة مغلقة لم يخرج عن حيثياتها أبدا. يومه يبدأ بعد مغيب الشمس، إما تجده جالسا في مقهى الفنانين يتناول غداءه باستمتاع كبير، ثم يلحقه بكوب شاي بعد أن يغسل يديه جيدا لأكثر من عشر دقائق ويجففهما بمنديل قطني كبير الحجم. يستمع أكثر من أن يتحدث ولا يطلق للسانه العنان إلا حين يغني في حفلات الأعراس أو حين يكون في الموقع الآخر الذي يمضي إليه – أيضا – بعد مغيب الشمس مباشرة، وأعني مركز الشباب ليتمرن على الأغنيات برفقة الفرقة الموسيقية المحلية.
لا يذكر أحد متى هبط الفنان الشاب حيدر الغالي بأرض المدينة، ولا من أي المدن جاء، لم يهتم أحد أصلا بالنبش في التاريخ الشخصي للفنان حيدر الغالي، المهم أنه فنان ويطرب الجميع حين يغني في حفلات الأعراس وخلال الرحلات الأسبوعية، وفي جلسات وقعدات كبار الموظفين والتجار وزائريهم من المدن الأخرى.. إنه مؤدٍّ كبير، يحفظ كل أغاني وردي وعثمان حسين وعثمان الشفيع وأحمد المصطفى والكاشف ورمضان زايد، ويرددها جميعها بإمتاع وتطريب كبيريين؛ وإن كان يميل إلى أداء أغنيات أحمد الجابري، فمع ألحان وكلمات هذا الفنان العظيم يجد نفسه ويذوب: “الطيور، والحنين، الانتظار، والحزن، القلب على أبوابه الزهور والورد، والرسائل الندية، والشجن المرسل في الارتقاءات اللحنية المفاجئة للصوت الطروب”.. كان متيما بالجابري، وكان يتقمصه تماما حتى في تصفيف شعره وطريقة جلسته وإمساكه للعود وضحكاته وبسماته وحتى في نظرته الحزينة.
لم يكن حيدر الغالي مثل بقية فناني الفرقة المحلية، لم تكن له مهنة أخرى غير الفن والغناء، لم تكن له زوجة أو أسرة ممتدة أو أحلام بتكوين عائلة، لم يكن مشغولا ببناء بيت أو مراكمة ثروة أو التفكير في مستقبل مخزون في الغيب، كانت تكفيه أمسيات الخميس المضمونة ليغني في الأفراح، ونهارات الجمعة المقفولة ليغني في الرحلات الترفيهية، والقليل فقط من المال زائدا وجبة العشاء وبعض التصفيق والإشادة والرقص الصاخب يجعله محلقا في السماء.
في فترة الثمانينيات، حقبة الأورغن، وحفلات البرك دانس، والأغاني الشبابية السريعة، تراجعت نجومية حيدر الغالي إلى أن أصبح شيئا أشبه بالمقتنى الفلكلوري للمدينة الآخذة في النمو أكثر. لم يعد هناك من يطلبه للغناء إلا بإلحاح من شيوخ الستينيات مسموعي الكلمة، لم يعد هناك من جمهور يلتف حوله في مقهى الفنانين عدا بعض الصبية الأذكياء ممن يأتون في فترات متباعدة ليتعرفوا عن قريب على صورة أسطورة مغنٍ قديم سمعوا الكثير من الطرائف – المختلقة – حوله.
لكنه، ظل كما هو مبتسما، راضيا بجلباب الجابري الذي يرتديه، قانعا بتلك النفحات القليلة التي يهبها له محبوه ومعجبوه القدامى والتي بلا شك تضمن له غداء شهيا متبوعا بكوب شاي مظبوط.
مات فجأة، فبكته المدينة.